الأحد 2017/02/26

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

"بركة يقابل بركة".. ضحكة سعودية من الخوف

الأحد 2017/02/26
"بركة يقابل بركة".. ضحكة سعودية من الخوف
لا يجعل الصباغ من الخوف بطلاً لفيلمه.. على عكس سينما إيران أو المغرب العربي
increase حجم الخط decrease
من ضمن مُتعها الكثيرة، تَمنحنا الأفلام مُتعة التلصص على أحلامنا وأحلام الآخرين وواقعهم. وحينما نكون أمام فيلم من السعودية، يكون التلصص حَافزاً كبيراً للمشَاهدة، أياً كانت طبيعة المنتج البصري، في البلد حيث ما نسمعه عنه، أكثر مما نراه. بل ولا دور للعرض السينمائي فيه، ما يجعل الناس أنفسهم يسمعون عن صورتهم أكثر مما يرونها.


التلصص أيضاً من ضمن مواضيع الفيلم السعودي "بركة يقابل بركة" لمحمود الصباغ. البطلة "بيبي" أو بركة -مثّلت دورها فاطمة البنوى- تستغل الانترنت وحسابها في "انستغرام" لإشباع رغبة التلصص عند ملايين المتابعين لها، تنشر صوراً وفيديوهات، تظهر أجزاء من وجهها لكنها أبداً لا تظهر وجهها كله. تستغلها أمها للتسويق لبضاعتها من الملابس والاكسسوارات النسائية، وتستغلها الشركات التجارية للترويج لمنتجاتها في السوق السعودية.

وأثناء تصويرها إعلاناً من تلك الإعلانات التجارية على شاطئ البحر، يداهمهم "بركة"، الموظف في بلدية جدة، لتحرير محضر مخالفة في حقهم. يقع الشجار بين البطل والبطلة، الذي وكما يحدث دائماً في الأفلام الرومانسية، يكون بداية العداوة التي تليها المحبة، ثم قصة الحب التي تشكل الخيط الدرامي الأساس للفيلمِ.

السيناريو الذي كتبه محمود الصبَاغ، يُقدم تيمة كلاسيكية سينمائية. البطلة الجميلة المشهورة، من عَائلة غنية، تقع في حب شاب مُوظف بَسيط يهوى التمثيل في فرقة مَسرحية لا يحضر عرُوضها سوى بعض المسؤولين الحكوميين، بصحبة حمَلة المباخر (في مشهد العرض تظهر المبخرة حرفياً ينطلق منها دخان البخور يحمله شخص لكي يعطر الجو لصَاحب الفخامة) والأكثر بؤساً أن البطل يؤدي دور "أوفيليا" حبيبة هاملت، أو "هامليت" كما يلفظها هو.


في المُعَالجةِ "المصرية" السينمائية لهذه القصة، تتطور قصة الحب إلى صرَاع، حتى ينال البطلُ رضى العَائلة الغنية، فتوافق في النهاية على زواج الحبيبين في مشهد الفرح السعيد. لكن هذا ليس فيلماً مصرياً، حتى لو كان مدير التصوير فيه المصري فيكتور كريدى. في فيلمِ الصباغ تصبح التيمة الأساسية في الفيلم هي: أين يقابل بركة، بركة؟

أين يتقابل عاشقان في السعودية حتى لو كانا في مدينة تتميز بقدر من الانفتاح، مثل جدّة؟

في كل مرة يكون الخوف عائقاً أمام تواصل بركة مع بركة. والخوف كل الخوف من التلصص والمتلصصين. المتلصص قد يكون موظفاً في "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، أو قد يكون موظفا حكومياً، أو حتى حارساً على بوابة مدينة الملاهي يمنع بركة من الدخول لأن المكان مخصص للعائلات فقط. بل إنه قد يكون أي عابر سبيل.

فيلم محمود الصباغ الذي شارك في مهرجان برلين السينمائي، لا يتأثر بهذا الخوف ولا يجعله "بطل" فيلمه. في العادة يلجأ صناع السينما من بلدان العالم الثالث، من إيران أو حتى المغرب العربي، إلى تقديس الخوف وتحويله طوطماً يدور حوله الفيلم. جزء كبير من مجد سينما العالم الثالث قائم على انتزاع شفقة منظمي المهرجانات في أوروبا وتعاطفهم. لكن الصباغ يسلك مساراً آخر، يستبدل التقديس بالسخرية واللعب مع هذا الخوف، الاحتفاء بالبدايات حتى وإن لم تكتمل، والضحك حتى مع الاعتراف بسلطة هذا الخوف، الضحك حتى وأنت تُهزم أمامه.


لهذا يفتتح محمود الصباغ فيلمه بلوحة تحذيرية، كتب فيها بالعربية: "أي تغبيش في هذا الفيلم هو فعل استباقي متعمد لمحاكاة خطاب الرقابة المحلي. يسعدنا أن نيسّر على الآخرين عملهم". وكتب بالانكليزية عبارة، ترجمتُها: "التغبيش الذي تلاحظونه خلال مشاهدة الفيلم طبيعي جداً، وليس المقصود به أي تلميح أو تعليق على الرقابة".

بسلاسة، ينقلنا الصباغ من مشَاهد واسعة الى شواطئ مَهجورة، جسور، أنفاق، انشاءات خرسانية مُختلفة. ثم من معَالم الحداثة العمرانية إلى بيوت وحارات ضيقة، حيث يعيش بركة الموظف في منطقةِ تُعَاني نقص المياه، وهي بيئة تتنوع شخصياتها، من صَاحب مقهى إلى "داية" تعمل في التوليد وأعمَال جلب الحبيب والتعَاويذ التي تُسَاعد النساء على الحَمل. يبدو الفارق الطبقي واضحاً في الصورة، بين العالم هذا، وعالم عائلة "بيبي" بركة، التي تملك بيتاً في المدينة وآخر على الشاطئ، ورب العائلة يقود سيارته الرياضية وكأس الويسكي في يده. تماماً كما الحال في أي بلد، حيث الثراء حصن للحمَاية من القواعد المفروضة على الآخرين بشرط أن تظل داخله.


تنتقل أحداث الفيلم بين عالم الحارة حيث يعيش بركة، وحيث يمر شبان يحاولون إقناع صاحب المقهى بإغلاقه والتوقف عن التحريض على الفِسق. وأسوار "الكومباوند" الحصين حيث تعيش فيه "بيبي بركة"، ويحميها من نظرات المتلصصين. حينما تقرر مقابلة الشاب بركة، يكون اللقاء داخل هذا الحصن، بإشراف الأم، ووسط اندهاش الحبيب الآتي من بيئةِ متواضعة، وهو يسأل طوال المشهد: "عادي كدا؟"

لكن للحياة داخل الحصن ثمنها. توافق بيبي بركة على الظهور بوجهها، في مقابل مليونَي ريال، لتكون علامة تجارية لواحدة من شركات مُستحضرات التجميل العَالمية التي ترغب في الاستثمار داخل السوق السعودي. وفي نهاية الفيلم تتخلى عن قصة حبها مع بركة، حينما تحمل أمها أخيراً.. لنكتشف أن "بيبي" ابنتها بالتبني، والآن وقد أتى والولد والوريث، فإنهم يقررون تزويجها لشقيق والدها بالتبني.

حينما يتهدم صرح الهوى يذوق بركة آلام الحب، لكن الظروف في النهاية تجعله تُدخله مرة أخرى الى بيت والدة بيبي، حيث يجلسان، لكنهما هذا المرة ليسا عاشقَين، بل هما غريبان. أخيراً يُقَابل بركة بركة.. لكن حينما لا يعود للقاء جدوى.


لكي يتمكن محمود الصباغ من التصوير في شوارع جدة، حصل على تصريح بتصوير مسلسل لا فيلم. بطبيعة الحال مُعظم الممثلين في الفيلمِ يظهرون على شَاشة السينما للمرةِ الأولى. لكن أداءهم جاء بفضل المعالجة والتوجيه من قبل المخرج، في أفضل لقطاته دائماً، ولم يعتمد الصباغ على حركة الممثلين، بل طوال الفيلم تقدم لنا كاميرا وقطعات المونتاج سرداً بصرياً موازياً يكشف لنا ذلك الجميل الرهيف في مدينة جدة.


برر الصباغ اختياره فيكتور كريدي مديراً للتصوير، بتشابه أجواء مدينة جدة مع أجواء البيئة المصرية، لكن الحقيقة أن الصورة التي قدمها الاثنان لجدّة هي صورة فريدة لمدينةِ سَاحلية. غير أن أكثر عناصر الفيلم اغتراباً عن الفيلم، كانت الموسيقى التي أعدها اللبناني زيد حمدان، والأغاني بصوت مي وليد والتي كان ظهورها خصوصاً في معظم لقطات الذروة الدرامية كاسراً لكل حواجز الإيهام والاندماج.

كل ما سبق يأتي في قالب تهكمي ساخر، ويصنف الفيلم ضمن الكوميديا وهو لا يتوقف عن انتزاع الضحكات في مَشاهده، ضحكات في وجه الهزيمة والمتلصصين والخوف.. وكارهي السينما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها