الأربعاء 2017/02/22

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

"قنديلة" الأبنودي.. حفرة في تربة السرد

الأربعاء 2017/02/22
"قنديلة" الأبنودي.. حفرة في تربة السرد
أمه فاطمة قنديل التي "أنّثوا القنديل إكرامًا لها"، فصار "قنديلة" بالضرورة
increase حجم الخط decrease
"ويا خايف.. دَهْوِسْ على خوفك/ تتعشّى.. من لحم خروفك". أغنية من التراث الشعبي ربما تكون كافية لإعادة شحذ همم رجال أشداء، قد تتساقط منهم القوة مع قطرات الدماء في أثناء حفر بئر بطريقة تقليدية، لكن لا مجال للتراجع، فأي تهاون أو سهو معناه السقوط في قاع الهوة، والقتل المحقق. المؤلف كذلك، في هذا النص، انطلق مشحونًا بالفكرة المجردة، ومع اشتداد وطيس الأحداث اللاهبة المتشابكة، ما من حبوب شجاعة يتسلح بها سوى استدعاء "المخزون"، من شعر وأساطير وذكريات وملاحم وسير وفنون شعبية، فهل تكفي معطيات الحماسة وحدها في نزال إبداعي نوعي كهذا، يتطلب الوعي والحساسية؟! وهل يقود الحفر، هنا، إلى مياه رائقة؟!

في حين تلاحق الأضواء حدثًا من الوزن الثقيل، هو صدور الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي (11 إبريل 1938 – 21 إبريل 2015) في 15 جزءاً، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، متضمنة دواوينه ذائعة الصيت واسعة الأثر من قبيل "الموت على الأسفلت"، "المربعات"، "جوابات حراجي القط"، "الميدان"، وغيرها، فإن حدثًا آخر يتعلق بالأبنودي أيضًا يستحق التوقف الهادئ المتأمل، هو صدور روايته "الأولى والأخيرة" منذ أيام قليلة (بعد رحيله بقرابة عامين) بعنوان "قنديلة"، في 52 صفحة، عن "مركز الأهرام للترجمة والنشر" في القاهرة.

إن تأخر صدور نص روائي، أو قصصي، للأبنودي، لما بعد رحيله، على هذا النحو، وصورته الشخصية التي ملأت غلاف "قنديلة" الأمامي بالكامل بشكل فج لافت، ثم ذلك الإهداء إلى أمه فاطمة قنديل، التي "أنّثوا القنديل إكرامًا لها"، فصار القنديل "قنديلة" بالضرورة، هي كلها بمثابة إشارات دالة، وعلامات أولية، موحية بأن القارئ إزاء حكاية "أبنودية"، يتعاظم فيها الشخصي، ليس بوصف الأبنودي مؤلفًا بالمعنى المألوف، بقدر ما أنه مستدعٍ حكايته هو، أو تلك الحواديت المتعلقة به، وبأسرته، وأهله، وأناس قريته.

هذا الافتراض البدائي الحدسي أننا إزاء "حفرة عفوية بسيطة في تربة السرد، منبتها الأساسي: الذاكرة، مع بعض التخييل"، هو افتراض غير مضمون بطبيعة الحال، بل قد يبدو تعسفيًّا، لولا ما دعمه منذ السطور الأولى للعمل، من تطابق يكاد يكون تامًّا بين عناصر النص الروائي من شخوص ومكان وزمان وأحداث وحبكة وغيرها، وبين ما يثبته الراوي العليم من معايشات عائلة الأبنودي في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، حيث ميلاد أمه "فاطمة قنديل"، وما سبقه من زواج جده "قنديل" وجدته "ست أبوها"، وما تلاه من تفاصيل حياتية ثرية، تستدعي عوالم الملحمة وأجواء الأساطير وملامح الفنون الشعبية والتراثية من شعر وغيره.

حدد السارد لأقصوصته مدى زمنيّاً غير طويل، إذ افتتحها بزواج "الحاج قنديل" من "ست أبوها"، وأنهاها ببلوغ ابنتهما فاطمة سن تسع سنوات. وقد عاش الزوجان معًا في قرية أبنود حتى بلغت فاطمة الثالثة، وعندها رحل قنديل ليعمل وحده في السويس لمدة ثلاث سنوات "يتاجر في الجناين والبساتين، يشتري طرحها وهو بعد زهر أو أول ما يعقد"، ثم عاد الأب مرة أخرى إلى أبنود ليمكث برفقة زوجته وابنته ثلاث سنوات أخرى.

في ذلك الزمن المحدود، هناك شخوص/أبطال بعدد أصابع اليدين، يشكلون ما يمكن تسميته "القيد العائلي" للراوي العليم، الذي لم يتضح من هو على صفحات العمل الروائي، وإن كان جليًّا أنه الشاعر الأبنودي نفسه، سواء وصله تاريخ جدوده من خلال الحكي، أو استقى خطوطه العريضة من الواقع، واختلق التفاصيل بموهبة المخيلة. هناك شخوص آخرون كثيرون، لكنهم ثانويون، غير فاعلين، يحضرون لاستكمال المشهد، وهم لا يخرجون عن الجيران، وأهل القرية.

ولعل الحدث الختامي للأقصوصة يفتح، عن عمد، ثقبًا في فضاء، من أجل كسر تلك المحدودية في الزمان، والشخوص: "بدأ (قنديل) يتباعد في الرقاد عن (ست أبوها) حين تملكه اليأس وأدرك أنها اكتفت بـ(فاطنة)، فكان يرش مساحة السطح الطيني أمام الغرفة بالماء، ويفترش حصيرًا وينام وحيدًا. أدركت (ست أبوها) ذلك. لم تحزن، فقد كانت موقنة أنها ليست المتسببة، وإنما عين (سكسك) – أخت (قنديل) – رحمها الله، وجازاها بذنبها. قالت له ذات ليلة: يا (قنديل)، لا يجب أن تعيش (فاطنة) في الدنيا "فرادية"، لماذا لا تتزوج؟ وصمت (قنديل) وكأنه لم يسمع، أو كأنه سمع جيدًا، ثم قال باقتضاب: لقد تزوجتُ يا (ست أبوها)!".

تلك نهاية/بداية، مفتوحة على الاحتمالات كلها. هناك حياة أخرى عاشها "قنديل" في السويس، لم يعرف القارئ عنها شيئًا، سوى أنباء تجارته، والهدايا التي كان يرسلها لزوجته "ست أبوها" وابنته "فاطمة" وأخته "سكسك" (التي طالما حسدت "ست أبوها" وتسببت في فقدانها القدرة على معاودة الإنجاب). هذا الزواج الثاني لم يعرف أحد عنه شيئًا، فما ملابساته، ومن هي الزوجة؟ وهل هناك أبناء؟ كما أن هذا الإخطار المفاجئ لـ"ست أبوها" بأن لها ضرة، يفتح الباب على تساؤلات أخرى، فهل ستقبل الزوجة الأولى هذه الحقيقة وترضى بها، أم ستنتهي العلاقة بينهما بالانفصال؟ وما مصير "فاطمة" (فاطنة أو قنديلة)، ذات السنوات التسع، بعد هذه المستجدات كلها؟

انتهاء الأقصوصة على هذا النحو المبتور، لا ينطلي هضمه وفق مفهوم "النهاية المفتوحة"، وإن كان قد خرج بالسرد من وصاية السارد، وطريقة الحكي التي تشبه ما ترويه الجدات، اللاتي يدركن كل شيء، للصغار قبيل النوم. ما لا يمكن أن يتوقعه القارئ هنا، أو ما لا يمكنه استكماله بمفرده، بشأن تلك النهاية، لم يخطر في بال المؤلف أنه أمر عصي أو مستحيل، لسبب بسيط، هو أن التفاصيل كلها تبدو مستقاة من وقائع حقيقية. فالمؤلف يدرك ما بين ثنايا السطور، ويعرف ما ستؤول إليه الأحداث، ومن ثم فلعله يتوقع أن القارئ قادر على استشفاف "مستقبل" بات "ماضيًا" بالنسبة للمؤلف، وللراوي العليم.

"قنديلة"، عنوان الرواية، على نحو ليس مفهومًا بالقدر الكافي، ما لم يطلع القارئ على المسكوت عنه في ذاكرة الراوي. فالأحداث كلها محصورة في تلك العلاقة بين الرجل "قنديل" وزوجته "ست أبوها"، وتفاصيل وأجواء الحياة في القرية. وهنا، في تلك التفاصيل، تتجلى جماليات العمل الحقيقية، فمن ناحية يبرع السرد في التصوير الفوتوغرافي بشكل فائق، وبقدرة فذة على استعمال معطيات المكان وعناصره ولغته بالضبط، بلا تكلف، ودون زيادة أو نقصان. ومن ناحية أخرى، يتخلى السرد في كثير من مواضعه عن ميكانيكيه، مفسحًا المجال لومضات آسرة، مستقاة من الشعر والسحر والأسطورة وغير ذلك.

السرد المشوّق المشغول، هنا، في التوليفة الأبنودية الفريدة، غاية في حد ذاته، قبل أن يكون وسيلة أو عنصرًا في بناء نسق روائي بالمعنى المتعارف عليه. القارئ، بهذا المنطق، يقرأ كي يقرأ، لا لكي يصل إلى معطى كلي محدد، غير التماهي والانخراط التام في لحظات فريدة وسط مجتمع فريد، لا يعلم المعاصرون عنه الكثير.

من حقل الشعر، مثلًا، نجد هذه الأغنية، التي لولا كلماتها ما تمكن الرجال الأشداء من حفر البئر: "يا مصبّر صبّر صابرينك/ اتحمّل والمولى يعينك/ أهي هانت، يالله يا رجالة/ تسلم لي همم الرجالة". ومن قلب السرد، نجد شعرية أخرى، خفية، تتفجر في المشهد ذاته، مشهد التجهيز لحفر البئر، ثم الشروع فيه: "تصاعد الدخان في سماء القرية، في الوقت الذي كان (علي النجار) يحول ساق الجميزة العريقة التي اشتراها قنديل من نجع (الفارسي) إلى ألواح، ليشكل من هذه الألواح (خنزيرة) دائرية، (عاشق ومعشوق)، دون استعمال (مسامير حدادي). كان ينظر إلى المستقبل البعيد، لبئر ستعيش إلى الأبد، لذا اختار الخنزيرة من خشب الجميز، إنها خبرة الفراعين التي تركوها للأحفاد، فهو الخشب الوحيد الذي يتعامل مع الماء، لا يطرده، بل يمتصه ليزداد صلابة، لا ينتفش فالانتفاش يعني الانفجار. آبار أبنود القديمة التي بنيت منذ قرون ما زالت جديدة كأنها بنيت أمس".

وفي أثناء حفر البئر، تتواصل شعرية المشهد، مؤكدة أن الراوي، هنا، هو كمن يحفر بيديه المجردتين في تربة السرد: "نز العرق، وسالت الدماء على الظهور، وظهرت بقع حمراء على القمصان القطنية القصيرة. لا مجال للتراجع، إما أن تستقر الخنزيرة في القاع على مهل، وإما الموت. طالت البئر واستطالت كأنها مشوار لا سبيل إلى انقضائه، وقد كلت الأجساد، وتقوست الأعواد، ولم يكن الغناء بقادر على مواصلة عطاء بعض من القوة، وقد خار الجميع وانبثقت الدماء بعدما كانت بقعًا. لم يكن على قيد الحياة سوى (قنديل)، ينظر إلى قاع البئر، يقدر المسافة الباقية وهو مستمر في الغناء، فيترجرج الصوت في الحفرة العميقة، ليخرج منها أكثر ارتفاعًا وحدة وتعددًا، فكأن ألف قنديل يغنّون".

الحَفر، كذلك، من جهة ثالثة، يمكن أن يتسلل إلى النص، من نافذة الأساطير. إن البشر نجحوا في حفر البئر، بشق الأنفس. لكن هناك حفرة أخرى، اكتشفتها "ست أبوها" في المنزل، وتخشى أن تسقط "فاطمة" فيها. هذا الحفرة العميقة ظلت لغزًا لم يتكشف، فمن الذي حفرها؟ وهل هناك قوة تتحدى إرادة البشر؟ لقد سمعت "ست أبوها" كثيرًا عن "بورة الضبعة"، وهي "حفرة رهيبة تحفرها إناث الضباع، تلد فيها وتقيم وتدافع. هل يجسر الوحش على حفر كل ذلك في الصباح والبيت مليء؟ أي وحش جسور هذا الذي لا يهرب من البشر، ولا يهاجمهم؟!".

هذا نص ينتصر للحَفر، و"المعافرة" (العناد أو المقاومة باللهجة المصرية). القناص يقنص ما اعتاد قنصه في حقيقة الأمر، ثم إذ به، وبنا، أمام "رواية" أخرى للمشهد، يُستساغ تصديقها في إطار جمالياتها الغرائبية، وفي ذلك سر نجاح العمل: "ما إن خرجت (ست أبوها) و(فاطمة) حتى سمعت (قنديل) يصيح: يا ساتر. عادت إليه، لتجده واقفًا فوق ثعبان بطول مترين، وقد فصلت البلطة رأسه. وقفت باهتة، وتصلبت (فاطنة) مذعورة. قال بصوته الواثق الجهور: إنه ليس ثعبانًا، بل شيطانًا، كيف اختبأ كل ذلك خلف جريد هذه النخلة التي تشبه عود القطن؟".

"قنديلة" عبد الرحمن الأبنودي، باختصار، حكايا خضراء طازجة، لو أنضجتها القوانين لفسدت، ولو انتُزعتْ منها شعريتها، الظاهرة والضمنية، وأساطيرها، وفنونها الشعبية، لما بقي منها إلا الشخصي، غير القادر على تجاوز الجفاف.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها