الإثنين 2017/02/20

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

التنمّر وأشياء أخرى

الإثنين 2017/02/20
التنمّر وأشياء أخرى
يبدو مجتمعنا العربي مدركاً للمصطلح الإنكليزي bullying أكثر مما يدركه بالعربية
increase حجم الخط decrease
وأنا أشاهد فيلم Moonlight بكيت في أكثر من مشهد.. هذا ليس فيلماً بل قصة حياة.

- مدخل
"في طفولتي وحتى سن المراهقة عانيت كثيراً من تنمّر الآخرين. في البيت كانت أختي التي تكبرني بسنة واحدة تستهدفني دائماً وبشكل مؤذ جسدياً ونفسياً. كانت لا تضيع ساعة من دون أن تؤذيني بلا سبب. ولم أنسَ أبداً اليوم الذي طويتُ فيه فستان العيد الأزرق قرب منامي، فرحة به وبرسوم المجرة عليه، لأصحو في الصباح وأراه مقطعاً بالمقص. تسللت أختي ليلاً وحولتهُ إلى قطع بمقص الخياطة كي لا أفرح في العيد. قضيتُ عيدي باكية من دون أن أحقق حلمي الذي نمتُ عليه، بأنني سأرتدي الفستان وأظل أدور به في باحة البيت. لم أفهم حتى بعدما كبرنا لماذا كانت تفعل هذا، وهي كانت على قدر كبير من الجمال ومحبوبة من الجميع!

في الروضة والمدرسة استمرت معاناتي من تنمر فئة معينة من أولاد وفتيات، من عائلات ميسورة عادةً أو أولاد المُدرّسات أو الأقوى بدنياً أو كما يسمون أنفسهم "السكان الأصليين- المواصلة". كانوا يتنمّرون عليّ بشكل بشع ويسخرون من أصول عائلتي ولهجتي ولم يكن أحد من إدارة المدرسة يردعهم. جعلوني أكره المدينة وأهلها مبكراً، وكان يوم خروجي منها إلى الأبد يوماً تاريخياً لن أنساه. لسنوات عديدة في طفولتي، لا أستطيع الذهاب إلى المدرسة من الطريق المختصر بسبب بنت وولد كانا يقفان بانتظاري وفي يديهما قطعة خرطوم ماء متيبس..

كنت كلما أمرّ يهجمان علي، خصوصاً البنت لأنها كانت أكبر وأقوى، تضربني على رجلي وتقول أن هذه منطقتها وعلى "أمثالي" ألا يمروا من هنا! عندما كبرت عرفت أن هذا سلوك بعض الحيوانات لتحديد منطقتهم بالتبول حولها. كلما كنت اشتكي أختي، لأمي أو أبي، كانا لا يصدقاني لأنها تستمر بالكذب والحلفان، أو كانت تتبع ماذا أفعلن فتسبقني وتشتكيني قبل أن أفعل أنا، ولأنهما مثل ملايين الأمهات والآباء العراقيين لم يكن لديهم الوعي الصحي والنفسي الجيد للتعامل معنا. وهكذا صرتُ أخاف أن أخبرهما عن تنمّر الأولاد خارج البيت.

كبر هذا الخوف معي، ولم أتعلم يوماً كيف أحمي نفسي أو أدافع عنها. حتى اقتنعتُ أنني ضعيفة بالفعل وعشت هذه القناعة كواقع حال. ما جعل أحدهم يستغل هذه الجزئية في علاقتنا في ما بعد، بعدما عرف نقطة ضعفي هذه. مارس عليّ كل أنواع الإساءة والتنمّر، مطمئناً تماماً أنني لن أرد عليه يوماً أو أحاول على الأقل أن أدافع عن نفسي. كنتُ أرى نفسي، مثلما اقتنعت Rachel بأنها كلب منبوذ، كما أقنعها Tom بتنمرهِ عليها لسنوات في فيلم The girl on the train، وكلما ركلها عادت إليه. إلى أن أوصلني مرحلة "أنفجرتُ" فيها على وجهه بصرخة أحرقتني وأحرقته. كانت هذه الصرخة حصيلة تلك السنوات من الصمت على ظلم وتجاوز الآخرين. سنوات من الصمت لم أجرب فيها قوتي ولا مرة. إلى أن أصبحتُ وحيدة في مواجهة نفسي وخوفي. هذه المواجهة التي كشفت أشياء كثيرة في داخلي لم أكن أراها، لكني شاهدتُ ملامحها في مصير Chiron بطل فيلم Moonlight وكيف سمح لخوفهِ من تنمّر العالم الخارجي عليه، بحرمان نفسهِ من مواصلة حياته الطبيعية. ربما ندمتُ على أشياء نتجت عن تلك الصرخة، أولها إيذاء نفسي، لكني شاكرة للحظة المُرّة التي دلتني على قوتي أخيراً. تلك المرارة نحتاجها أحياناً لنصل إلى نقطة "حلوة" وطيبة في داخلنا كي نستطيع البدء بها حياتنا من جديد. 

  
- عالم التنمّر وضحاياه
صودفَ أن شاهدتُ أفلاماً عديدة مؤخراً، منها جديدة ومرشحة لجوائز أوسكار هذه السنة، ومنها قديمة من عصر الستينات. توصلتُ إلى قناعة بأن ليس كل ما نشاهدهُ علينا أن نستقبلهُ فنياً و"نفككه" إبداعياً. فهذه مهمة "الناقد الفني المتخصص"، الذي يُفترض أنه درس ومارس النقد ويتقاضى عليهِ أجراً، وتبقى القراءات الأخرى مجرد انطباعات شخصية. لكن ثيمة عابرة مشتركة بين الأفلام التي شاهدتها، جعلتني اؤمن بأنه من خلال الفن نستطيع الإضاءة أيضاً على مشاكلنا الإجتماعية، ولا خلل في أن تكون للعمل رسالة أخرى، غير فنية. إذ، بالنسبة إلي، كل ما يخص "الحياة" كحياة هو فن بطريقة ما. كان من ضمن هذه الأفلام فيلم Moonlight من إخراج Barry Jenkins والمرشح لثماني جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم وأفضل مخرج. قرأت الكثير عنه، وكان التركيز على وضع بطل الفيلم نفسه، وكيف عانى في صغره بسبب طبيعته أو "هويته" الجسدية، أو كما يقول البعض "ميوله الجنسية"، وهذه عبارة أظن فيها الكثير من التمييز للمثليين إذ لا نستخدمها كثيراً مع heterosexual، وبالاشارة إلى "الميل" لشيء بمعنى أنه قابل للتغيير. لكني لم اقرأ، حتى الآن، عن جزئية مهمة في قصة حياة البطل، وهي تعرضه للتنمّر، بغض النظر عن السبب.

بعد مشاهدتي الفيلم، كتبتُ في صفحتي الفايسبوكية الحالة أعلاه في "مدخل"، وكتبت عما شعرتُ بهِ من ألم تجاه ما تعرض لهُ Chiron من تنمّر مبكر. واستفزني سؤال أحد الأصدقاء في القائمة عن معنى كلمة "التنمّر". أدركتُ لحظتها أننا فعلاً لا نعرف الكثير في مجتمعنا عن هذه الكلمة سوى الأصل المشتق منه وهو اسم حيوان "النمر".

هناك تعريفات وشروحات عديدة لكلمة Bullying، ويبدو أن مجتمعنا العربي يعرف عن الحالة بالمصطلح الإنكليزي أكثر مما يعرف بالعربية. ومن هذه التعريفات أنه "شكل من أشكال الإساءة والاعتداء المتكرر لفرد أو أفراد على فرد آخر أضعف، بدنياً في الغالب". حتى وقت قريب، كان التنمر معروفاً في أذهاننا على أنه شائع في أوساط الأطفال والمراهقين، في المدارس وأماكن اللعب والتجمع. لكن في الحقيقة، هذه الحالة لا تقتصر على عالم الأطفال، بل تعدّتهُ إلى عالم الكبار، في البيت والعمل والشارع والمؤسسات الحكومية.

منذ وصولي إلى النروج العام 2009 صرت أتعرّف على المصطلح عن قرب. فهناك يوم في السنة مخصص لفعاليات مناهضة التنمّر في المدارس ورياض الأطفال. لهم نشيدهم الخاص الذي يحفظونه ويرددونهُ منذ الصغر. إذ ينشأ الطفل هنا وهو واعٍ لماهية مصطلح Bullying. بل يشرح طاقم الإشراف والتدريس أنواع التنمّر، ومتى نعتبره مزاحاً ولعباً، ومتى نعتبرهُ اعتداءً. مع هذا، تظهر بين الحين والآخر حالات تنمر بين الأطفال والمراهقين، لكن إدارات المدارس هنا تتصدى لها بمحاسبة ذوي الطلاب، ويصل الأمر أحياناً إلى استبعاد الطالب من المدرسة ونقلهِ إلى مدرسة أبعد. هذا ما يجعلني أفكر دائماً بأن مجتمعاتنا لا تعرفُ شيئاً عن ثقافة التوعية وتسليط الضوء على هذه الزاوية المعتمة جداً في حياتنا.

علق زملاء وأصدقاء كثر في صفحتي، على الموضوع، وطالبوا أن أتوسع بالموضوع أكثر، وبعضهم صارحَ بأنه كان عرضةً للتنمّر في صغره، سواء في العائلة أو خارجها. وهذا أمر أسعدني. إذ أعتبرُ المصارحة الجماعية نوعاً من أنواع الاستشفاء الجماعي. في الحقيقة، ليس لدي الكثير لأقوله، أو ربما لست مؤهلة لاقتراح حلول. كتبتُ ما كتبتُ لأني في لحظة ما شعرتُ أني يجب أن أتكلم أخيراً، وأواجه نفسي أولاً. وبعد سجالات كثيرة مع النفس أدركتُ أن مصارحتها ومواجهتها هي أولى الخطوات لعلاج الندوب الداخلية، أو على الأقل لتفادي ظهورها إلى السطح مجدداً. كثيرون لا يعرفون أن ما نتعرض له من إساءة متكررة يجعل منا حالات محتملة مختلفة.

فليس كل من يتعرض للتنمّر سيكون فرداً مناهضاً له عندما يكبر، أو يتمكن من الدفاع عن نفسهِ. إذ أن هناك حالات تقود لنتيجة بعكس ما نتوقع. ربما يتحول إلى متنمّر آخر، أو إلى شخص سلبي يتجنب الجميع كي لا يتعرض للأذى مرة أخرى، أو يصبح ديكتاتوراً يحكم بالقتل والسلاح كما في حالة بعض حكامنا. الجزء الأهم الذي يخصني في هذا الأمر حالياً، هو تفادي تحولنا إلى متنمّرين بأثر رجعي أو نتيجة ظلم سابق. ولو تأمّلنا الأزمة التي تمر بها منطقتنا وحروبها الدامية، ولو بحثنا جدياً في أحد أسباب استمرارها، لتوصلنا إلى نتيجة أننا نشأنا على هذا! بين متنمِّر و "مُتنمَّر عليه"، في مختلف مرافق الحياة، ولم ننشأ على ثقافة احترام خصوصية الآخر ووجوده.

أعتقد أنه يقع على عاتقنا، نحن من ندرك ونعي هذه الأزمة في مجتمعنا، استدراك الحالات مبكراً، والتعاطي معها بشكل جدي، وعلاجها، وأن ننتبه لأولادنا كي لا يكونوا ضحايا تنمّر أو ممارسين له. فهذه جروح لا تلتئم مع الزمن، وتخلّف ندوباً بشعة تظهر بين الحين والآخر كلما حاولنا النظر عميقاً في المرآة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها