في هذا العمل يكمل سلام رباعية الأعمال الشعرية الكاملة التي أنجزها في ربع قرن وبدأها مع كفافيس، ثم بودلير، فرامبو، وأخيرا ويتمان. سنوات من الكد والعناء والمتعة الشاقة في آن كما يقول، ليضع بين يدي القارئ العربي ما أنجزه "سادة الحداثة الشعرية ومؤسسوها" في ثلاث شعريات عريقة، باذخة، من شعريات العالم.
المفارقة أن فكرة ترجمة أعمال ويتمان الكاملة، كانت الأسبق لدى سلام، حيث بدأ الإعداد المادي لها أوائل التسعينيات، قبل العمل على أشعار كفافيس، بتجميع المصادر والمراجع وتصوير نسخ العمل، والقيام بترجمة استكشافية لقصائد أولى.. إلخ، لكن الفكرة لا تتحقق إلا بعد نحو ربع قرن!
يشير سلام في مقدمته للترجمات السابقة لأشعار ويتمان: ترجمة الدكتور ماهر البطوطي "ذكرى الرئيس لنكولن وقصائد أخرى، من ديوان أوراق العشب" في 2006. وأيضاً ترجمة سعدي يوسف التي طبعت مراراً، آخرها في القاهرة ضمن سلسلة "المائة كتاب" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويشرف عليها سلام نفسه!
لماذا أقدم على الترجمة إذن؟ يجيب سلام في ثنايا مقدمته، فيقول إن سعدي يوسف ركز في مختاراته على القصائد الأولى لويتمان، فيما اتجه البطوطي إلى اختيار أعمال تنتمي إلى المرحلة الوسطى من إبداع ويتمان، بما يعنى أن ترجمة سلام هي الترجمة الأولى لأشعار ويتمان الكاملة.
أوراق العشب "سفر ويتمان الشعري الكامل"، ليس ديواناً منفرداً، بل صرح شعري، استغرق نحو نصف قرن من حياته، النصف الثاني من القرن التاسع عشر بكامله "هو قارة شعرية بكاملها - لم يسبق أن عرفها الأدب الأميركي، ولا المكتوب بالإنكليزية عامة- تضم بلداناً وأنهاراً وجبالاً وبحاراً، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب شاعر من قبل".
"أوراق العشب" هو مجموع شعره الذي كتبه خلال حياته فلم يصدر ويتمان ديواناً منفرداً، إثر ديوان، على عادة الشعراء المحدثين، لم يصدر سوى "أوراق العشب" في طبعات متتالية. وكل طبعة جديدة، تحمل ما استجد من قصائد مضافة إلى ما سبق. هكذا –يقول سلام- لا تشبه طبعة "أوراق العشب" سابقتها، لا تكررها، بل تنطوي كل طبعة "جديدة" على ما هو "جديد" بالفعل، من إضافات شعرية، وتغييرات متفاوتة في البنية، وتغييرات في بعض الألفاظ والسطور.
وفي طبعته الأخيرة التي أسماها "طبعة فراش الموت" والتي اعتمد عليها سلام في ترجمته، كتب ويتمان: "نظراً لوجود طبعات متعددة، ونصوص وتواريخ مختلفة لـ"أوراق العشب"، فأود القول بأني أفضّل وأوصي بهذه الطبعة، الكاملة، للنشر المستقبلي، فيما لو كان ثمة طبعات قادمة؛ كنسخة أو صورة طبق الأصل –حقا- من نصوص هذه الـ438 صفحة".
لكل طبعة من طبعات "أوراق العشب" ذكرى وحكاية ترسم حياة صاحب الأوراق نفسه، لذا عندما كتب إد فولسوم وكينيث م.برايس دراستهما التي ضمنها سلام في الكتاب لم يجدا أفضل من "سيرة ذاتية لأوراق العشب" عنواناً للدراسة، لأنها ببساطة سيرة ذاتيه لويتمان.. بل سيرة الولايات المتحدة نفسها.
ولد والت ويتمان لأسرة من الطبقة العاملة في وست هيلز بلونج أيلاند، في 31 آذار/مارس 1819، بعد ثلاثين عاما من تنصيب جورج واشنطن كأول رئيس للولايات المتحدة، المتشكلة مؤخرا، لذا فإنه ينتمي إلى الجيل الأول من الأميركيين الذين ولدوا في الولايات المتحدة، وكبروا مفترضين الوجود الراسخ للبلد الجديد. كان الزهو بالأمة الناشطة مفرطاً، واستمد والده المزارع أسماء أبناء ثلاثة من أبطال الثورة وحرب 1812: أندرو جاكسون، وجورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وحده الابن الأصغر، إدوارد، الذي كان معاقا ذهنيا وجسديا، كان لا يحمل اسما يرتبط بأسماء العائلة، ولا بالتاريخ.
خلال طفولته تنقلت عائلته كثيرا في محيط بروكلين؛ إذ كان والده يحاول –بلا جدوى في الغالب- أن يستفيد ماليا من التنامي السريع للمدينة، من خلال المضاربة في العقارات، ارتاد ويتمان المدارس المؤسسة حديثا، مشاركاً في الفصول تلاميذ من خلفيات مختلفة، كان معظمهم فقراء، حيث كان أطفال العائلات الثرية يرتادون مدارس خاصة. وفى مدرسته كان جميع التلاميذ في الغرفة نفسها، عدا الأميركيين الزنوج، كان عليهم أن يرتادوا فصولا منفصلة، في طابق آخر.
لكن تعليمه الأساسي كان خارج جدران الفصول، كان في المتاحف والمكتبات، والمحاضرات التي كان يحضرها بانتظام، ففي عمر الحادية عشرة، انتهى ويتمان من تعليمه الرسمي، وبدأ حياته كعامل، في وظيفة "ساعي" لدى أحد محامي بروكلين البارزين، الذي منحه اشتراكا في مكتبة متنقلة، حيث بدأ تعليمه الذاتي.
في العام 1831 أصبح ويتمان متدرباً في صحيفة ليبرالية للطبقة العاملة تسمى "باتريوت" تعلم هناك الطباعة، ومر بمتعة تحويل الكلمات إلى مطبوع، ملاحظاً كيف يمكن للفكرة والحدث أن يتحولا بسرعة إلى لغة، ويتم توصيلهما في الحال إلى آلاف القراء، وقد ظل ويتمان أسيراً لتلك الفكرة طوال حياته حتى في أشعاره فلم يكن يعترف بانتهاء القصيدة إلا بعد طبعاتها، فالمخطوطات الشعرية لم تكن أبداً مقدسة بالنسبة لويتمان، الذي كان كثيراً ما يتخلص منها.
عمل في الصحافة، ثم التدريس، ثم عاد للصحافة مجدداً، ثم قرر أن يصبح قصاصاً! بحسب الدراسة هناك شواهد عديدة تؤكد أنه كان أكثر من هاوٍ، وأنه انغمس بصورة محمومة في تأليف القصص، فقد نشرت حوالى عشرين صحيفة ومجلة مختلفة، قصص ويتمان وقصائده الأولى. وأفضل أعوامه القصصية كانت بين 1840 و1845 حين نشر قصصه في مجلات من قبيل "أميريكان ريفيو" و"ديموكراتيك ريفيو" أهم المجلات الأدبية الأميركية آنذاك.
في شباط/فبراير 1848 التقى ويتمان، ج.إ. مكلور الذي كان ينوى إصدار صحيفة في نيوأورليانز، وفى وقت لم يتجاوز 15 دقيقة أنهى مكلور اتفاقه مع ويتمان ليشارك في الإصدار الجديد، ومنحه مقدمة ليغطى تكلفة رحلته إلى نيو أورليانز، وأدت الرحلة - بالقطار والقارب البخاري، والحنطور- إلى توسيع إحساس ويتمان بجغرافيا البلد وتنوعه، أضافت رحلة الجنوب كثيرا إلى ويتمان وأنتجت على الأقل قصيدة واحدة "مبحرا في المسيسيبي في منتصف الليل" التي تصبح فيها رحلة القارب البخاري رحلة رمزية للحياة.
خلال الأربعينيات كان ويتمان يكتب قصائد تقليدية، كان شعر تلك السنوات مفتعلاً في الأسلوب ووعظياً للغاية، "اللغز المتعلق بويتمان –في أواخر الأربعينيات- هو سرعة تحوله من شاعر غير أصيل وتقليدي إلى شاعر تخلى فجأة عن الوزن والقافية التقليديين". والسر الذي أربك كتاب السير والنقاد على مدى الأعوام، هو الحافز على ذلك التحول: يعتقد إد فولسوم وكينيث م. برايس أنه تعرض لإضاءة روحية من نوع ما فتحت بوابات فيضان نوع جذري جديد من الشعر، وفي مقدمته يسأل رفعت سلام: هل كانت مقالة الشاعر إيمرسون جذرا ما لـ"أوراق العشب"؟ ففي مقالته، أعرب إيمرسون عن حاجة الولايات المتحدة إلى شاعر جديد فريد، ليكتب فضائل ورذائل البلد الجديد، فيما بعد كتب ويتمان عن ذلك: "كنت اهتاج، واهتاج، واهتاج، لقد دفعني إيمرسون إلى الغليان".
فهل اعتبر ويتمان نفسه ذلك الشاعر "الجديد الفريد" للولايات المتحدة؟
لكن فولسوم وبرايس يشيران إلى أن المسألة تبدو أكبر من مجرد استفزاز، فرغم غزارة المعلومات المتاحة عن ويتمان، إلا أن تلك الفترة من حياته –بدايات الخمسينيات من القرن التاسع عشر- فالمعلومات المتاحة عنها نادرة للغاية "كأنه قد انسحب من العالم الخارجي ليتلقى الوحي" وثمة مخطوطات باقية، معدودة نسبيا، لقصائد الطبعة الأولى من "الأوراق" تقود الكثيرين إلى الاعتقاد بأنها قد "انبثقت في صورة إلهام".
بشكل عام يرى فولسوم وبرايس، كتاب ويتمان، "منجزاً استثنائياً". فبعد محاولة لما يزيد على عقد كامل لتناول المسائل الاجتماعية في الصحافة، تحول ويتمان إلى شكل غير مسبوق، نوع من القصائد التجريبية القائمة على سطور طويلة غير مقفاة، بلا وزن معروف "الصوت مزيج خارق من الخطابة والصحافة والإنجيل –مخاطبا، دنيويا، نبويا- في خدمة تحقيق نزوع ديموقراطي أميركي جديد".
وفي موضع آخر تقول الدراسة إن ويتمان تصور مشروعة كـ"إنجيل جديد" سيحول أميركا إلى ديموقراطية حديثة.
على أي حال فقد بدأ ويتمان قصائد ما سيعرف بـ"أوراق العشب" العام 1850 بعد مروره بأجناس كتابية أخرى. وعلى نفقته الخاصة طبع "الأوراق" في مطبعة محلية صغيرة في بروكلين يملكها اثنان من المهاجرين الاسكتلنديين، خلال أوقات الراحة من العمل، قام ويتمان بغالبيه أعمال صف الكتاب بنفسه. مجرد ديوان صغير في 95 صفحة، مطبوع في 795 نسخة، بلا اسم للمؤلف، مع الاكتفاء برسم شخصي له بالحفر للفنان صامويل هولير.
كانت المبيعات قليلة، لكن المشكلة الأكبر كانت موجات الهجوم على الديوان، بدعاوى منافاته للأخلاق القومية والإباحية، وهى الدعاوى التي تسببت في إيقاف الطبعة الثانية من الديوان. ومنذ صدور الطبعة الأولى تصاعدت "تحرشات المحافظين" التي وصلت إلى حد فصل ويتمان من عمله كموظف صغير في وزارة الداخلية، لأن الوزير قرأ الديوان واعتبره مزعجاً، وقيل إن الشاعر جون جرينليف ألقى بنسخته في النار، في حين اعتبرها ناقد آخر "كتلة من الهراء الأحمق" واعتبر ويتمان مذنباً بهذه الخطيئة المريعة التي لا ينبغي ذكرها وسط المسيحيين (تلميحاً إلى المثلية).
وفى الأول من آذار/مارس 1882 كتب النائب العام لمقاطعة بوسطن أوليفر ستيفنس إلى الناشر جيمس أوزجود أن "أوراق العشب" تشكل "أدباً إباحياً"، مقترحاً سحبه من التوزيع، وحذف قصيدتي "امرأة تنتظرني"، و"إلى عاهرة عادية" وإجراء بعض التغييرات في قصائد أخرى منها "أغنية نفسي" و"أغني الجسد المثير" و"لحظات حميمة". اعترض ويتمان على كل ما سبق وكتب إلى الناشر: "إن القائمة مرفوضة مني كلياً وجزئياً، ولن يتم التفكير فيها تحت أي ظروف". وبالفعل رفض الناشر إعادة طباعة الكتاب، وعثر ويتمان على ناشر جديد، أصدر طبعة جديدة العام 1882 معتبراً أن اللغط سيؤدي إلى زيادة المبيعات وهو ما حدث فعلاً. فصدرت خمس طبعات متوالية، كل طبعة من ألف نسخة، ونفدت الطبعة الأولى خلال يوم واحد!
وبرغم ذلك كله يظل الجسد –كامل الجسد- هو موضوع ويتمان الأثير، من دون أن يخجل من أي عضو فيه "فالأعضاء الجنسية جوهرية لتحقيق اكتمال الكينونة، شأن العقل والروح، مثلما –في الديموقراطية- يمثل المواطنون الأفقر والأكثر تهميشا نفس أهمية الأغنياء والمشاهير".
وفق هذا التصور يرى فولسوم وبرايس أن قصائد "كالاموس" بالغة التأثير في ما سمّوه "أدب المثلية"، وأصبح ويتمان سيد "السياسة الجنسية" رغم أنها لم تتسبب –في القرن التاسع عشر- في حساسية ذات بال، مثلما فعلت "أبناء آدم" بالرغم من تصويرهما العاطفة الجنسية نفسها.
لذا فـ"أوراق العشب" ليست مجرد مجموعة شعرية لشاعر عظيم، هي حسب وصف رفعت سلام احتفال رفيع بالحياة، بالحب، بتفتح الطاقات الإنسانية عن آخرها، بلا حدود ولا أسلاك شائكة. تتشارك "أوراق العشب" أيضاً مصير الولايات المتحدة نفسها، تعطلها الحرب الأهلية، وتصقل كاتبها في آن. يشاهد أهوالها بعينيه، يضمد جراح المصابين، ويكتب رسائلهم، يصادقهم، ويتبنى بعضهم، تتعمق جراحه وتزداد معارفه وتتوسع مداركه، فيضيف صفحات وصفحات لإنجيله وسفره الضخم، الحالم بحرية الإنسان الكاملة على أرضه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها