الجمعة 2017/02/10

آخر تحديث: 10:46 (بيروت)

أصوات صيدنايا

الجمعة 2017/02/10
أصوات صيدنايا
ثمة أصوات للقتل، الذي ترتكبه دولة الأبد
increase حجم الخط decrease
ثمة أصوات للقتل، الذي ترتكبه دولة الأبد، بجسمها العسكري والأمني، في سجن صيدنايا، أصوات يعرفها المعتقلون جيداً، ومن خلالها، يشعرون أن الإبادة تحصل في جوارهم. فبحسبما شددوا في الحقائق، التي نقلها عنهم تقرير منظمة العفو الدولية، غالباً ما يتلقفون مجرى الإبادة بالإستناد إلى السمع، وذلك، في حين يعمد المسؤولون عنها إلى اقترافها بعيداً عن النظر. ففي وقت الإعدام وتنفيذه، وهو قوام الزمن الإعتقالي، يأمرهم الحراس بالنوم باكراً لكي لا يتسنى لهم أن يكونوا على دراية بنقل رفاقهم من المهاجع إلى حتفهم، لكن، شدة الأصوات لا تسمح لهم بالإغفاء، بل أنها تبلغ آذانهم، وتجعلهم مدركين بأن المجزرة المنظمة قد بدأت أو شارفت على الإنتهاء: "كان الأمر يحدث بعد أن يأمروننا بأن نخلد إلى النوم، وعليه، كان بمقدورنا أن نسمع كل شيء".

تتدرج الأصوات، التي تصدر عن عملية الإعدام، أو "الحفلة" كما يسميها جهاز الأبد في صيدنايا، من مرتبة إلى أخرى. فلهذه "الحفلة" مسار، أوله، احتجاز المدرجين على قائمة الشنق في قبو تحت "المبنى الأحمر"، حيث يتعرضون للضرب المبرح، وآخره، اقتيادهم إلى قبو تحت "المبنى الأبيض"، حيث يجري وضع الأنشوطة حول أعناقهم، وقطع أنفاسهم. على هذا النحو، ومن الأول إلى الآخر، تتغير الأصوات، ولا تبقى على حال واحدة، فتكون الصراخ، الذي يطلقه المعتقلون من جراء تعذيبهم، ثم تضحى صوت حشرهم في المركبات، التي تحملهم إلى فنائهم، ولاحقاً، تغدو صوت شنقهم، الذي يشبه "صوت سحب شيء ما، تماماً كما تسحب قطعة خشب"، وبعد هذا، تصبح صوت احتضارهم القريب من "الغرغرة"، قبل أن تصير صوت احتكاك توابيتهم بحديد الشاحنات المتوجهة إلى المقابر.

يحاول جهاز الأبد محو هذه الأصوات وحظر وقوعها على مسامع المعتقلين في المهاجع الإفرادية والجماعية. فهو لكي يمنع صراخ المحتجزين في قبو "المبنى الأحمر"، يلزمهم بقاعدة محددة، مفادها أنهم، وكلما أصدروا أنيناً أو صيحةً، سيضاعف من تعذيبهم. ولكي يمنع صوت احتكاك توابيتهم عند تكديسها في "برادات اللحوم" من الذيوع، يدير محركات وسائل النقل من أجل طمسه. على أن هذا الجهاز، ومهما سعى إلى إزالة تلك الأصوات، لا يقدر، بحيث انها تنتشر بحدة، فتلخبط نظام الإخفاء، الذي يعتمده لحجب إبادته، مثلما تطيح بالوجوم، الذي يفرضه. يريد من مجزرته أن تكون غير مسموعة، لكن، أصواتها سرعان ما تنقلب عليها وعليه.

تستوي الأصوات، التي يصدرها المشنوقون من أجسامهم أو من توابيتهم في وقت إعدامهم، على معنيين. من ناحية، تدل على موتهم، ومن ناحية أخرى، تشير إلى أنهم يتمسكون بالحياة عبر مقاومة نفيهم، وفي الناحيتين، تواجه هذه الأصوات نظام طمسها وكبتها. تنتقل من الأقبية الى المهاجع، فلا حواجز تردعها، ولا عوائق تلغيها، معلنةً ان الإبادة تحصل، وحاملةً لرسالة من القتلى الى رفاقهم: "اعلموا بأنهم لم ينقلونا الى معتقلات اخرى، كما أخبروكم، بل انهم يقتلوننا". كأن الأصوات، هنا، هي دعوة الى باقي المعتقلين لكي يشهدوا، وفعلهم المرجو هذا، يساوي أخذهم الحيطة والحذر: "اشهدوا على قتلنا عبر اتقائكم منه".

يغضب جلادو الأبد من أصوات المعتقلين، فهم يريدون إبادتهم  كلياً، وبلا ان يبقوا على أي اثر منهم. وفي حين تعذيبهم، يطلبون منهم ان يخرسوا، ان يكونوا غير موجودين بالمطلق، لا بالكلام، ولا بالصراخ، ولا بالأنين. ممنوعة الأصوات على المعتقلين، بهذا القانون، يحسب الجلادون انهم لا يعدمون أحداً، ولا يرتكبون اي شيء بحقه، وبهذا القانون، يتنكرون لشرهم، ويواصلون ممارسته. لكن، ولما تهبط أصوات المعتقلين على مسامع الجلادين، ولو كانت تنم عن مجرى القتل الذي يقترفونه، تفلت من قانونهم، وتقاومهم. لذلك، يعمدون إلى إلغائها، ولذلك، هي إلى جانب السوريين. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها