الجمعة 2017/12/08

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

معرض "السوريالية المصرية" في ليفربول.. والنقد أسير "منابر المساجد"!

الجمعة 2017/12/08
معرض "السوريالية المصرية" في ليفربول.. والنقد أسير "منابر المساجد"!
increase حجم الخط decrease
وصل إلى متحف "تيت ليفربول"، معرض "السوريالية في مصر: الفن والحرية" قبل ثلاثة أسابيع ويستمر حتى منتصف آذار/مارس المقبل، لتكون المدينة الإنكليزية المحطة الرابعة في جولته الأوروبية. فالمعرض، الذي يتتبع تاريخ جماعة "الفن والحرية" بين عامي 1938 و1948، من خلال 130 قطعة فنية وأرشيفية، قد أنطلق العام الماضي، من مركز بومبيدو في باريس، في الذكرى الخمسين لوفاة مؤسس الحركة السوريالية، أندريه بروتون، قبل إن ينتقل إلى متحف مدريد الوطني للفنون، ليكون على بعد طابقين، من اللوحة الأشهر لبابلو بيكاسو، "غيرنيكا"، ومنها إلى مدينة دوسلدورف الألمانية. ولا تزال أمام المعرض محطة أخرى بعد أن يغادر مدينة ليفربول، ليصل إلى المتحف الحديث في ستوكهولم، العام المقبل. 

تجاوز الاحتفاء بالمعرض، خلال جولاته، مجرد الاكتشاف المتأخر للحركة السوريالية في ما وراء أوروبا، وفي مصر تحديداً، إلى انتهاز فرصته للتأكيد على فكرة عالمية الفن، وطبيعة الهجينة، العابرة للحدود السياسية والثقافية. لكن حسن النية المتضمن في تلك المحاولة التي يقدمها المعرض، لم تخل من نَقدٍ يتهمها بالعكس تماماً. ففي تقييمه لمعرض ليفربول في جريدة الغارديان مؤخراً، يكتب الناقد البريطاني، جوناثان جونز، "ومع ذلك لا فنان كبيراً في العرض، ولا دليل على أن الجناح المصري من السوريالية، أضاف شيئاً أساسياً للحركة العالمية التي تداعت في الأربعينات"، مجادلاً بأن المعرض حقق عكس ما كان يهدف إليه، فبدلاً من نزع صبغة المركزية الأوروبية عن السوريالية، كشف أن السورياليين في مصر، عانوا مما أطلق عليه "الانسحاق الثقافي" أمام باريس. ولذا، يتساءل جونز: "لماذا علينا أن ننظر إلى تقليد من الدرجة الثانية للطراز الفرنسي الحديث، بينما كان من الممكن لنا أن نتأمل منبر مسجد بديع الجمال، نقشت زينته في القاهرة في القرن الخامس عشر؟". ويذهب المقال في نهايته إلى أنه، ولتفكيك مركزية النظرة الفنية، فعلينا الإفلات من الهوس الغربي بالـ"حديث"، وأن نخاطر برحلة في الزمن، بالرجوع إلى الماضي، بالتوازي مع رحلتنا في المكان، وعبر الحدود: "لننسى التقدم في الزمن، إن كنا نريد أن نوسع فهمنا للفن".


يبدو جونز متحاملاً بعض الشيء في نفيه لأي قيمة فنية للمعروضات، تتجاوز التقليد الرديء للفن الأوروبي. لكن ذلك التحامل يمكن تفهمه، عند مقارنة مقالته بتقييم للناقدة لورا كمينغ، عن المعرض، نشر في الجريدة نفسها الأسبوع الماضي. فجونز يظهر أنه لم يبذل أي جهد على الإطلاق للاطلاع على سياقات ظهور جماعة "الفن والحرية"، على العكس من كمينغ، التي تكشف مقالتها عن إلمام كاف بالظرف التاريخي لتبني الجماعة وأفرادها، السوريالية، والتي لم تكن مجرد تقليد لصرعة غربية جذابة، بل رد فعل متزامن في مواجهة أخطار محدقة واحدة وتهديدات مشتركة. فالجماعة في مصر لم تكن بعيدة عما تواجهه دوائر السوريالية في أوروبا. الألمان والإيطاليون كانوا على الحدود الليبية بالفعل، وكانت القذائف الألمانية تتساقط على الإسكندرية، فيما كان "حزب مصر الفتاة" الفاشي، وقمصانه الملونة التي تجوب شوارع القاهرة، حاضراً على وقع النبرة الشوفينية والإسلامية  التي تمددت على المشهد السياسي والثقافي في مصر.

كان تمرد جماعة الفن والحرية، موجهاً ضد فكرة الأصالة الوطنية، وضد تقاليد المحافظة للمؤسسة الفنية للدولة، والأيديولوجيات الشمولية، في مصر، وتحت الاستعمار، في وقت واحد. بينما كانت أعمالهم تتناول، في معظم الأحيان، تيمات شديدة الخصوصية المحلية والشخصية. وإن كان هذا لا ينفي بالطبع، تأثرهم بالحراك الثقافي في باريس، وهذا أمر غالباً لا يعيبهم أو يعيب غيرهم. لكن تقييم ذائقة جونز الفنية، وإلمامه بسياق المعروضات التاريخية ليس ذا أهمية كبيرة في الحقيقة، بل اللافت للانتباه هو ما يقترحه كبدائل. فلسبب ما، يبدو جونز مقتنعاً بأن خلخلة المركزية الأوروبية، والتحلي بنظرة أكثر شمولاً، يتطلب نبذ الفنون الحديثة في الشرق، والنظر إلى الماضي.

هكذا يبدو "منبر مسجد" من القرن الخامس عشر، هو أنسب ما يمثل مصر أو الشرق، بالنسبة إلى جونز. فهو بالطبع، إيكزوتيكي بما يكفي، وتغلفه هالة روحية ودينية تليق بالشرق بالطبع، ويتحلى، في قِدمه، بغموض تاريخي، حري بجماليات الفنون غير الأوروبية. لكن هذه ليست وجهة نظر جونز وحده. فعلى هامش المعرض نفسه، ينظم متحف "تيت ليفربول"، يوماً للمحاضرات التعليمية تحت عنوان "السوريالية المصرية"، ومن المدهش والصادم أن ثلاثة من المحاور الأربعة للمحاضرات، تتعلق بالفن المصري القديم، ورمزيته، والحفائر الحديثة للآثار الفرعونية، بينما هناك محور واحد يتعلق بالفنون الحديثة، وحتى هذا يظل متعلقاً بتأثرها بالفنون الفرعونية.

تعزز محاور محاضرات المتحف، ما يقوله جونز. فتقدير حقيقي للشرق وفنونه، يتطلب الرجوع في الزمن، ونسيان فكرة التقدم، بالكامل. وحتى النظر إلى حاضره وفنونه الحديثة، لا يمكن أن يتم سوى برؤيته عبر عدسة تأثره بالماضي. بالنسبة الى الكثيرين، يظل اشتباك فناني الشرق ومجتمعاته مع التيارات الثقافية والفنية العالمية، في مواجهة سياقات معولمة وكوزموباليتانية وهجينة ومعقدة، مجرد "إنسحاق"، وتقليدٌ لا يكفيه أن يكون تقليداً بل ومن "الدرجة الثانية أيضاً". هكذا ينتمي الشرق أمام هولاء، إلى الماضي. والأهم أنه ماض بلا مستقبل، فعلينا ههنا أن "ننسى التقدم في الزمن". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها