الأحد 2017/12/31

آخر تحديث: 10:27 (بيروت)

عادل عصمت لـ"المدن": الجوائز تخرّب الأدب وتفيده

الأحد 2017/12/31
عادل عصمت لـ"المدن": الجوائز تخرّب الأدب وتفيده
"التنويري" العربي ليس موجوداً إلا في التعريفات النظرية
increase حجم الخط decrease
في "حالات ريم"(*)، الرواية الأحدث للكاتب المصري عادل عصمت، ثمة شيء آخر غير التشويق يقود القارئ إلى حافتها. ففي حين يبدو ظاهر الحكاية عادياً، لا ينفك القارئ يندمج في حيوات شخوصها، حتى يتورط في نسج أقدارهم بنفسه، إلى أن يصطدم بما خطه لهم الروائي من مصائر قد تخالف ظنه، وحينما يغضب لذلك، وقد يغضب، فإنه يكتشف أنه –نفسه- قد تحول إلى "مهاب" زوج "ريم" التي تعاني اكتئاباً حاداً، والذي يظن أن الحياة سهلة حد امتلاك اليقين بتطويعها حسب إرادته، لكنه لا يجد غير نفسه في النهاية وقد اضطر للانصياع إلى ما حاول إنكاره في البداية.

وفي حين يقتنص عادل عصمت (1959) لحظات عادية لينسج منها نصوصه، لا تبدو حياته الشخصية كذلك. فالروائي الذي درس الفلسفة في بدايته، لم يلبث أن أمضى عامًا واحدًا في الصحافة، ليتركها العام 1989 إلى غير رجعة، عائدًا إلى مدينته طنطا (شمال القاهرة) فيعمل سائق تاكسي، ثم يقرر في أثناء ذلك الالتحاق بالجامعة مرة أخرى للحصول على ليسانس الآداب قسم المكتبات، كي يعمل كأمين مكتبة في إحدى المدارس الحكومية.

أصدر عصمت تسعة كتب(**) على مدار 22 عامًا، منذ بدأ النشر في العام 1995، تدور عوالمها في محيط مسقط رأسه طنطا. وفي حين جاءت كتبه الخمسة الأولى بفاصل 3 إلى 6 سنوات بين الكتاب والكتاب التالي، فقد أصدر في الفترة من 2015 إلى 2017 أربعة كتب دفعة واحدة، وفاز عن روايته الرابعة "أيام النوافذ الزرقاء" بجائزة الدولة التشجيعية في العام 2009، وهو في عمر الخمسين. وفي العام الماضي، حصلت روايته الخامسة "حكايات يوسف تادرس" على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية في القاهرة.

وعن روايته الأخيرة "حالات ريم"، كان لـ"المدن" معه، هذا الحوار:


* قلتَ في حوار صحافي سابق،
إن لديك قصصًا طويلة، تجد صعوبة في نشرها، لأن عدد كلماتها يتجاوز 12 ألف كلمة. "حالات ريم" وهي نوفيلا، تقترب من هذا العدد من الكلمات، ولا تتبنى تقسيم الرواية التقليدي، فهل كانت واحدة من تلك القصص؟

-  فعلا هذا صحيح. "حالات ريم" كانت من بين تلك القصص، وكانت ستصدر في مجموعة مع قصص أخرى، لكني أحببت هذا العمل وخشيت إن ضممته إلى قصص أخرى ألا يحظى بالاهتمام، حتى صادفت قطعاً صغيراً أصدرت به دار النشر التي أنشر فيها كتبي، منتجات ورشة للكتابة الإبداعية، فأعجبني، وفكرت أن أنشر تلك القصة مستقلة.
إنتاج القصص الطويلة، قليل، بالمقارنة مع أشكال أخرى من أشكال السرد، رغم أنها شكل فني، اشتهرت به نصوص فارقة في تراثنا الأدبي مثل "البوسطجي" ليحيى حقي و"النداهة" ليوسف إدريس و"بالأمس حلمت بك" لبهاء طاهر وكذلك "زهر الليمون" لعلاء الديب التي أعتبرها واحدة من أجمل تجليات هذا الشكل الفني، رغم أن رأيي لم يستسغه بعض أصدقائي.


* هل ما زال الأديب بحاجة الى تصنيف راسخ لينتج نصه على أساسه؟

- هل هناك تصنيف راسخ لأشكال السرد؟ أشك في ذلك. تحت خانة القصة القصيرة -على سبيل المثال- قد تجد أنواعاً كثيرة من المنتجات الفنية، تُصعّب عليك أن تجد تعريفاً جامعاً مانعاً لها أو للقصة القصيرة، كما أن الحدود مراوغة بين تلك الأنواع.
دعنا نتفق في البداية على أن الكاتب ينتج عمله بالطريقة التي تناسبه ويستخدم ما بين يديه من موضوعات، لكنه في النهاية سيبحث عن شكل لمادته، وقد تضطره معالجة هذه المادة إلى الابتعاد عن الأشكال المتعارف عليها في الكتابة، لكنه في النهاية مضطر أن يقدمها في "شكل ما"، أن يخلق لها ملامح، فلا يمكن تخيل عمل فني بلا شكل، سواء كان راسخاً أو غير ذلك، وإن كنت تريد إجابة مباشرة على سؤالك فهي أن الأديب ما زال يحتاج إلى تلك التصنيفات، حتى ولو بغرض الخروج عنها. وبالنسبة إليّ، أحب التأمل في الأشكال الفنية للسرد، وأحاول تحديد انطباعي عنها وإيجاد سمات عامة لكل شكل، مجرد تخطيط عام أختبره على الدوام وأعدل فيه. يبهرني "الشكل" بثرائه وتنوعه ومرونته مع كل تجربة جديدة. "حالات ريم" واحدة من تلك التأملات في شكل النوفيلا.


باتت الرواية من المصنفات التي تدرس في الجامعة، وعالميًا لم يعد الأديب المنتج الوحيد لنصه بل يشترك معه آخرون، مثل المحرر الأدبي أو بعض الأساتذة المتخصصين في العلوم الإنسانية الأخرى، فروائي يكتب رواية يمر بطلها بمرض نفسي -مثلاً- قد يعرضها على متخصص ليراجع بناء الشخصية وتصرفاتها وفقًا لنوع الأزمة التي تمر به. فهل فعلت الأمر نفسه مع "حالات ريم" خصوصاً أن بطلتها تعاني الاكتئاب؟

- أخشى التعميم. طبعاً بعض الكتّاب في صناعة النشر العملاقة في الغرب تحول هو نفسه إلى مؤسسة يدير خط إنتاج للروايات. الأمر هنا يخص السوق ومتطلباته، وبالتالي تقديم منتج فني (سلعة) متقن الصنع، وفي الوقت نفسه ما زال بعض الكتاب يصنعون كتبهم بجهودهم الخاصة في عزلتهم مثل حكاية الروائي كازو أشيغورو، عن كتابته لرواية "بقايا اليوم". لقد كتبها وحده ثم قام بعد ذلك بالبحث والتقصي. أظن أنه من الصعب على بعض الكتاب التخلي عن العلاقة الحميمة بعملهم في مرحلة تكونه الأولى، في مرحلة بنائه.
ما زال هناك كتّاب على الطراز القديم يؤمنون بالعكوف على العمل منفردين حتى يعثروا على شكله وسماته الخاصة، لن يسمحوا هنا بالتدخل لأنهم يعتبرون عملية الإبداع هي رحلة كشف وفهم. إنه لا ينتج سلعة –على الأقل في مرحلة الأبداع الأولى- بل منطقة للتواصل مع خبرات ورؤى يتيحها لنفسه ولقارئه. أما بالنسبة لـ"حالات ريم" والاكتئاب، لم أكن في حاجة إلى مراجع تعينني، كنت أحتاج إلى ملاحظة واستبطان تلك الحالة التي نعايشها بشكل أو بآخر في حياتنا وحياة من نعيش معهم، لكني بحثت في موضوع "الطلاق" ومتى يقع.

 * بخصوص الطلاق. تبدو شخصية البطل (في حالات ريم) "تحررية" في أحد وجوهها، لكنه في الوقت نفسه يعتمد مسوغًا دينياً كأساس لعلاقته بزوجته، حين يطلقها ثلاثًا، كما يضربها في إحدى المرات حتى يكسر ذراعها. هل يمكننا القول إن كل تنويري يحتوي في داخله على "ظلامي" صغير؟

- ليس بالضرورة. المعاملة الطيبة والإنسانية لا تحتاج تنويرياً ولا غيره، رأيت فلاحين يعاملون زوجاتهن بطريقة رائعة، ورأيت معتنقي أفكار عظيمة يفعلون العكس، "مهاب" بطل "حالات ريم" شخص مديني يتمتع بثمار الحداثة الغربية، من دون تمثل القيم التي أنتجت تلك الثمار الحضارية. إنه ابن فئة اجتماعية بدأت في بلادنا مع تحديثات محمد علي، وهو شخص يتمتع بثمار الحداثة من دون أن يكون بالضرورة نفسه حداثياً، ليس مؤمناً بأفكار التنوير بل مسايراً لها، لا يؤمن إلا بنفسه ومصلحته ومتعته، وأشك أن ما أطلقت عليه "التنويري" ليس موجوداً إلا في التعريفات النظرية، أي لا يمكنك معاينة أمثاله إلا في أفراد وليس في فئة اجتماعية.

* يكمن جمال "ريم" في ما تحتفظ به شخصيتها من سمات الطفولة: (البراءة –العفوية- الانطلاق- التمرد- ذاكرة النسيان والخلق)، وذلك النموذج عن المرأة الجذابة يألفه الأدب. لماذا في رأيك ما زال هذا النموذج صالحًا لجذب اهتمام الأديب؟

- ربما تكمن الجاذبية في الصورة الذهنية والعاطفية لتلك الألفاظ التي ذكرتها: البراءة، الانطلاق، التمرد، الخلق. ثم أن المهم في العمل الفني ليس "العنصر" بل "العلاقات". تلك السمات في "حد ذاتها" تأخذ قيمة هامشية في مقابل الدراما التى تقيمها. ليس المهم هو الصورة المألوفة، بل كيف خلقت تفاعلاً وأدت إلى نتائج وأقامت مناخاً مختلفاً ومزاجاً خاصاً. علاقات الحب قديمة والمكتوب عنها يفوق الحصر ومع ذلك ستظل جذابة للكتابة إن كان عندك تأويلاً وفهماً جديداً.

 * يبني القارئ علاقته مع النص على أساس ما اختبره من معرفة، ألا تؤثر موتيفات سردية سبق وأن تعاطى معها، في أعمال أدبية أخرى متعددة - مثل الحبيبة الطفلة، ثنائية الرقص والروح الحرة المتمردة، دول النفط والردة الثقافية، تحول المرأة لارتداء النقاب - سلبًا في تفاعله مع دراما نصك؟

- قد يحدث هذا إن كانت خبرات القارئ قد طغت على تلقيه للعمل، وإن كان تعامل الكاتب مع هذه الموضوعات قد تم بطريقة لا تحررها قليلاً من دلالاتها المتدوالة. القارئ الحصيف حساس يستشعر النغمة الرائجة ويميز بسرعة إن كانت التفصيلة قد جاءت تماشياً مع ثوابت الموضوعات الأدبية، أم جاءت لضرورات الموضوع والفن، ثم أن تلك الموتيفات السردية كما تسميها هي من مفردات حياتنا نعايشها كل يوم. المشكلة تكمن في الكيفية التي تتعامل بها، وهو اختبار جيد للكاتب. هل ستغدو لها الدلالات القديمة نفسها، أم أنها ستبعث معاني جديدة وتحافظ على علاقة حميمية بالدراما التي تشكلها، وبالتالي تحتفظ بقوة الضرورة الفنية؟ قد يبدو الأمر مثل علاقة الشاعر بالكلمات العادية التي نستخدمها كل يوم، كيف تأخذ بين أصابعه بريقاً جديداً. هل حدث هذا في حالات ريم؟ لا أعرف. لقد اجتهدت والمتلقى هو الفيصل هنا.



بالحديث عن التلقي.. من يتأمل منجزك الإبداعي يشعر بأن النشر لا يأتي ضمن أولوياتك. ففي حين تكتب بشكل شبه يومي - حسبما أشرت في أكثر من مناسبة - إلا أنك لا تنشر بشكل منتظم.

- طريقتي في الكتابة هي السبب، وأيضا مسؤوليات حياتي العائلية.
طريقتي في الكتابة لا تأخذ مساراً متقدماً. يمكن أن أبدأ في كتابة رواية وبعد كتابة عشرات الصفحات وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك بكثير، أتوقف، وأكتشف أن هذا ليس المطلوب. الفن عسير كما تعرف، وكل رواية تبحث عن شكلها وعن نبرتها وعن مزاجها. ما الذي يحدث لكل تلك المادة التي لم تف بالغرض؟ تقول لنفسك وقت اليأس إن هذ الموضوع لن ينفع وتتخلى عنه كلياً وتبحث عن موضوع آخر، وهكذا.
هذه الطريقة كلفتني الكثير من الجهد، والقليل من الإعمال، بالإضافة إلى هموم الحياة اليومية ومسؤوليات البيت والأولاد، لكن بمرور الوقت اكتشفت أن هذه الجهود لم تضع هباء، فبعد 2012 عندما كبر الأولاد وخفت المسؤوليات وجدت مادة صالحة للكتابة أنضجها النسيان والتقدم في العمر.


* ولكن ألا يؤثر تأخر النشر سلباً في  تطور تجربة الأديب؟

- النشر مهم بالنسبة إلى الكاتب لأنه يضعه -وكذلك عمله- في حوار مباشر مع المتلقي ومع المُنتج الفني المعاصر له، لكن من ناحية أخرى قد يجري كاتب هذا الحوار - مع الانشغالات الإنسانية والجمالية لزمنه - من دون أن ينشر إلا على فترات متباعدة. المهم أن يكون الكاتب على تماس مع نبض وهموم زمنه. هذا هو الأساس. ربما الانقطاع عن الكتابة (حتى لو كانت كتابة شخصية) باعتبارها "أداة" هذا الحوار، هو ما يؤثر بالسلب في تطور الأديب، ونضج تجربته.

ليس النشر فقط ما يضع الكاتب في ذلك الحوار. هناك أيضًا الجوائز. وسبق أن قلت إن "الكتابة من أجلها تخرب الأدب"، ولست وحدك صاحب هذا الرأي، فإن حظيت الجوائز في العالم العربي بسمعة سيئة، فلماذا يقبل عليها الأدباء؟

- لأن عوائدهم من كتبهم قليلة جداً، وثانياً لأنها، رغم كل ما قلناه، بوابة الكاتب لكي يكون مقروءاً.
لا بد أن نقبل هذا التناقض في واقعنا الملتبس، فالجوائز تخرب التجربة الإبداعية للكتاب من ناحية أنها تسيّد بعض أنماط الكتابة وتقيم منها نموذجاً، وبالتالي تدفع القارئ والكاتب الناشيء إلى التفكير في أن هذا هو "النمط" وليس مجرد شكل واحد من أشكال الكتابة، لكنها للأسف -بسبب عوامل كثيرة لا مجال لذكرها الآن- هي الطريق الواسع لكي يعرف القراء أعمال الكاتب.


* حصلت على جائزتي الدولة التشجيعية و"نجيب محفوظ".. فكيف أفادتك تلك الجوائز؟

- أعادت لي جائزة الدولة التشجيعية الثقة في عملي بعدما كدت أفقدها، وقد وصلت إلى الخمسين من العمر، ولم يكن هناك اهتمام كبير بعملي، وجائزة نجيب محفوظ وسعت قليلا هذه الدائرة من الاهتمام ومنحت أعمالي بعض الانتشار.


(*) صدرت "حالات ريم" عن دار نشر "كتب خان بالقاهرة
(*) أعمال عادل عصمت: هاجس موت (رواية) – شرقيات 1995، الرجل العاري (رواية) – الهيئة العامة للكتاب 1998، حياة مستقرة (رواية) – شرقيات 2004، أيام النوافذ الزرقاء (رواية) – شرقيات 2009، ناس وأماكن (مقالات) – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010، قصاصات (قصص) – الهيئة العامة للكتاب 2015، حكايات يوسف تادرس (رواية) – الكتب خان 2015، صوت الغراب (رواية) – الكتب خان 2017، حالات ريم (نوفيلا) – الكتب خان 2017.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها