السبت 2017/12/16

آخر تحديث: 10:58 (بيروت)

في البؤس الرمزي لبرنار ستيغلر

السبت 2017/12/16
في البؤس الرمزي لبرنار ستيغلر
إذا كنت لا أحب حالي، لا يمكنني أن أحب الأغيار
increase حجم الخط decrease
هذا النص، كتبه برنار ستيغلر في العام 2003، وقد تضمنه كتابه الذي حمل العنوان إياه، وتألف من جزأين. وستيغلر هو فيلسوف فرنسي، ولد وترعرع في الضاحية الباريسية، لم يكمل تحصيله الثانوي، وانتسب، بعد انتفاضة أيار 1968، إلى الحزب الشيوعي. لاحقاً، وفي العام 1976، سرق ثلاث مصارف، وفي أثناء سرقته للرابع، قبضت عليه الشرطة، فأمضى خمس سنوات في السجن، حيث قرأ وتعلم الفلسفة. تتعدد إنشغالاته، التي تتصل، بمجملها، بمقالب العالم الراهن على تنوعها وتداخلها. أسس مجموعة Ars industrialis، كما يدير مؤسسة البحث والإبتكار (IRI)..

السؤال السياسي هو سؤال إستطيقي، والعكس أيضاً: السؤال الإستطيقي هو سؤال سياسي. أستخدم هنا عبارة "إستطيقي" في معناها الواسع. أولياً، الـ aisthésis[1]تعني الإحساس، والسؤال الإستطيقي هو سؤال حول الحس، والحساسية بشكل عام.


أؤيد ضرورة طرح السؤال الإستطيقي من الصفر، وفي علاقته مع السؤال السياسي، وذلك، لدعوة العالم الفني لإستئناف الفهم السياسي لدوره. فتنازل عالم الفن عن الفكر السياسي هو بمثابة كارثة.

بوضوح، لا أقول أن على الفنانين "الإلتزام". أريد القول أن عملهم هو، في الأصل، ملتزم بسؤال حساسية الغير. بيد أن السؤال السياسي هو، في الأساس، سؤال العلاقة مع الغير في حس مشترك، أي، وبهذا المعنى، التعاطف معه.

مشكلة السياسة هي معرفة كيفية الكون معاً، الحياة معاً، تبادل التعاون كمجموع عبر تفرداتنا ومنها (وهي عميقة أكثر من "إختلافاتنا")، وبعيداً عن نزاعات المصالح بيننا.

السياسة هي فن لضمان وحدة المدينة حول رغبتها في قادم مشترك، حول تفريدها، وتفردها باعتباره استحالة -واحد. إلا أن رغبة كهذه تفترض قاعدة إستطيقية مشتركة. الكون معاً هو الكون المتعلق بالمجموع الحسي. الجماعة السياسية هي إذاً جماعة حس. في حال لم نقدر على حب الأشياء (المناظر، المدن، الأغراض، الأعمال، اللغة، إلخ.) معاً، لا يمكن أن نقدر على التحابب. هذا هو معنى philia[2] عند أرسطو. وأن نتحابب يعني أن نحب معاً أشياء أخرى غير حالنا.

لهذا السبب، للإستطيقيا الإنسانية تاريخ، وهي تبدل مستمر للمحسوس. قطع مانيه مع التقليد هو مقدمة الحس، الذي لا يتقاسمه الجميع، وعنه، تنم كل النزاعات الإستطيقية التي تتكاثر في القرن التاسع عشر. لكن، هذه النزاعات هي سيرورة لبناء التعاطف، الذي يسم الإستطيقيا الإنسانية، مثلما أنها إبتداع يبدل العالم، رامياً إلى تشييد حساسية مشتركة جديدة، ومشكلاً النحن الإستفهامية التي تتعلق بجماعة إستطيقية مقبلة. هذا ما يمكن تسميته التجربة الإستطيقية، كما زاولها الفن، وكما يجري الحديث عادةً عن التجربة العلمية: بغاية إكتشاف غيرية الحس، استحالته حاملاً للقادم.

لكني، أعتقد أن الطموح الإستطيقي إلى هذه الغاية في أيامنا قد بلغ انهياره الواسع. ذلك، أن فئة عريضة من السكان هي اليوم مجردة من كل تجربة إستطيقية، إذ تذعن في تكيفها الإستطيقي إلى ما يريده التسويق، الذي صار مهيمناً على الغالبية من سكان العالم، في حين أن القسم الثاني من السكان، القسم الذي لا يزال يجرب، قد أدى الحداد على هؤلاء الذين غرقوا في هذا التكيف.

عشية 21 نيسان 2002، خطر هذا السؤال بطريقة ما فيَّ. فقد بدا لي في ذلك اليوم، وبوضوح رهيب، أن الأناس الذين صوتوا لجان-ماري لوبان هم أشخاص لا أحس معهم، كما لو أننا لا نتقاسم أي تجربة إستطيقية مشتركة. بدا لي أن هؤلاء الرجال، والنساء، والشباب لا يحسون بما يحصل، وبهذا، لا يحسون بأنهم ينتمون إلى المجتمع. إذ إنهم محبوسون في منطقة (تجارية، صناعية، ذي "تخطيطات" متنوعة، بما فيها ريفية، إلخ.) لا تشكل عالماً، لأنها منفصلة إستطيقياً.

كان 21 نيسان كارثة سياسية-إستطيقية. هؤلاء الأناس، الذين يعانون من بؤس رمزي كبير يختبرون استحالة المجتمع الحديث، وإستطيقيته قبل كل شيء- عندما لا يكون صناعياً. لأن التكيف الإستطيقي، الذي يُكوِّن أساس الحبس في المناطق، قد أخذ مكان التجربة الإستطيقية، وبهذا، جعلها محالة.

لا مناص من المعرفة أن الفن المعاصر، الموسيقى المعاصرة، الشغيلة الذين يعملون تقطعياً في إنتاج المشهد، الأدب المعاصر، الفلسفة المعاصرة، والعلم المعاصر، كل هذا يثير وجع الغيتو الذي تشكله هذه المناطق.

لا يصيب هذا البؤس ببساطة الطبقات الاجتماعية الفقيرة فقط: الشبكة التلفزيونية، على وجه الخصوص، تبرم كالبرص في كل مكان، مجسدةً عبارة نيتشه: "الصحراء تنمو". ومع هذا، لسنا جميعنا معرضون بالتساوي لهذا المرض: أجزاء هائلة من السكان تعيش في فضاءات مدينية خالية من كل تمدن، في حين أن أقلية ضئيلة تستمتع ببيئة عيش تستحق اسمها.

لا يجب الإعتقاد أن البؤساء الجدد هم البرابرة البغيضون. إنهم قلب مجتمع المستهلكين. إنهم "الحضارة". لكن، وبطريقة مفارقة، استحال قلبها غيتو. إلا أن هذا الغيتو يتعرض للإذلال، للإهانة من هذه الإستحالة. نحن، أصحاب الصيت الثقافي، العلماء، الفنانون، الفلاسفة، البصراء، والمطلعون، علينا أن نأخذ في حسباننا أن الغالبية العظمى من المجتمع تعيش في هذا البؤس الرمزي، الذي يتشكل من الإهانة والإذلال. هذه هي الأخراب التي تنتجها الحرب الإستطيقية التي تحولت السيطرة المهيمنة للسوق إليها. الغالبية العظمى من المجتمع تعيش في مناطق منكوبة إستطيقياً، حيث لا يمكنها الحياة، ولا يمكنها التحابب، لأنها مستلبة استطيقياً فيها.

أعرف هذا العالم جيداً: لقد أتيت منه. وأعلم أنه حامل لطاقات لا شك فيها. ولكن، إذا جرى تركها ستغدو تدميرية.

في القرن العشرين، ولدت إستطيقيا جديدة توظف البعد الوجداني والإستطيقي للفرد لكي تجعله مستهلكاً. كان ثمة توظيفات أخرى: البعض ابتغى أن يجعل منه مؤمناً، والبعض الثاني معجباً بالسلطة، والبعض الثالث مفكراً-حراً أيضاً، بحيث يكتشف الطلاقة التي تنشط جسده عند لقائه الحسي مع العالم والإستحالة.

لا يجب الحكم على القدر الصناعي والتكنولوجي للإنسانية. بدل ذلك، لا بدّ في المقابل من إعادة خلق هذا القدر، ولهذا، لا بد من فهم الموقف، الذي أدى إلى التكيف الإستطيقي، والذي، وفي حال لم يجر درؤه، سيؤدي إلى دمار الإستهلاك نفسه، وإلى القرف المعمم. نميز بين إستطيقيتين على الأقل، إستطيقيا علماء النفس الفسيولوجي، الذين يدرسون أعضاء الحواس، وإستطيقيا تاريخ الفن، تاريخ أشكال الوقائع الإصطناعية، الرموز والأعمال. وفي حين أن الإستطيقيا النفسو-فسيولوجية تبدو ثابتة، لا تتوقف استطيقيا الوقائع الإصطناعية عن التطور عبر الزمن. بيد أن ثبات أعضاء الحواس بمثابة وهم، إذ إنها خاضعة لسيرورة مستمرة من التعطيلات، والمعاودات الوظيفية، التي ترتبط تحديداً بتطور الوقائع الإصطناعية.

يشتمل التاريخ الإستطيقي للإنسانية على سلسلة من الأعطال المتلاحقة بين ثلاث تنظيمات، تشكل القدرة الإستطيقية للإنسان: جسده مع تنظيمه الفيسيولوجي، أعضاءه الإصطناعية (التقنيات، الأغراض، الأدوات، الآلات، أعمال الفن)، وتنظيماته الاجتماعية التي ينتجها الربط بين الوقائع الإصطناعية والأجساد.

لنتخيل علم أعضاء عام يدرس التاريخ المتصل بين هذه الأبعاد الثلاث للإستطيقيا الإنسانية، ودراسة التوترات، والإبتكارات والمقدرات، التي تنتج عنها.

وحدها هكذا مقاربة جينية تسمح بفهم التطور الإستطيقي الذي يؤدي إلى البؤس الرمزي المعاصر- اذ لا بدّ من كمون قوة جديدة، وهذا ما يجب تمنيه والتأكيد عليه طبعاً، في الإمكانات المفتوحة، التي يحملها العلم والتكنولوجيا، أو في وجدان الوجع نفسه.

ماذا حصل للوجدان في القرن الشعرين؟ خلال الأربعينات منه، ومن أجل امتصاص الإنتاج المفرط للسلع التي لا يحتاجها أحد، اشتغلت الصناعة الأميركية على تقنيات التسويق (عمد إلى تخيلها  إدورد بيرنيز، الذي كان فرويد خاله، منذ الثلاثينات)، التي لم تتوقف عن الإشتداد طوال القرن، ففائض القيمة الخاص بالإستثمار الذي يدور بإقتصاديات  الحجم يستلزم دائماً أسواقاً جماهيرية. للفوز بهذه الأسواق الجماهيرية، طورت الصناعة إستطيقيا، تستعمل فيها وسائل الإعلام المسموعة والبصرية، التي، وبتوظيف البعد الإستطيقي للفرد، تجعله يتبنى مسالك إستهلاكية.

من هذا، نتج البؤس الرمزي، الذي يشكل، وفي الوقت نفسه، بؤس ليبيدوي ووجداني، والذي يؤدي إلى فقدان ما أسميه النرجسية الأولية: تجريد الأفراد من قدرتهم على التعلق الإستطيقي بالتفردات، بالأغراض المتفردة.

لقد فهم جون لوك في القرن السابع عشر أن المرء يكون متفرداً عبر تفرد الأغراض، التي يمت بصلة إليها. أنا الصلة مع أغراضي كصلة متفردة. بيد أن الصلة بالأغراض الصناعية، التي تمعيرت لداعي آخر، قد صارت منذ الآن فصاعداً مقوننة ومصنفة في سياق الخصيصات (particularismes)، بحيث تشكل للتسويق شرائح السوق، محولةً المتفرد إلى خصيص. لأن تقنيات التسويق المسموعة والبصرية تؤدي بالماضي، الذي عشته، وبالتدرج، وعبر كل الصور والأصوات التي أراها وأسمعها، إلى أن يستحيل هو نفسه ماضي جيراني. وتعدد القنوات هو أيضاً تخصيص للأهداف-علة لكي تسعى جميعها للقيام بذات الشيء.

وتبعاً لذلك، تناقص اختلاف ماضيِّ عن ماضي أغياري، لأنه يتشكل أكثر فأكثر في الصور والأصوات، التي تفرغها الوسائل الإعلامية في وعيِّ، وأيضاً، في الأغراض والصلات مع الأغراض، التي تقودني هذه الصور إلى إستهلاكها. يفقد ماضيّ تفرده، يعني أضيع كتفرد.

مع فقداني للتفرد، لا أحب حالي: لا يمكن أن نحب حالنا سوى عبر المعرفة الحميمية بتفردنا الخاص. إذا كان تفردنا مدمر، حبنا لحالنا سيكون مدمراً أيضاً.

بالنسبة للفن، هو التجربة والسند لهذا التفرد الحسي كدعوة إلى نشاط رمزي، إلى إنتاج ولقاء الآثار في الزمن العمومي.

حب الحال، الذي يجعل من تفرد المرء ممكناً، والذي يسميها التحليل النفسي نرجسية، هو شرط حب الأغيار. إذا كنت لا أحب حالي، لا يمكنني أحب الأغيار. لذلك، قاتل نانتر، ريتشار درن، هو المثال عن الوجهة التي نمضي إليها: مثال عن التفريج، مثال عما يؤدي البؤس الرمزي إليه، مستقباً تفريج آخر، أي 21 نيسان 2002.

على هذا النحو السؤال الإستطيقي والسؤال السياسي ليسا سوى سؤال واحد.      


[1]عربياً، معادل aisthésisهوالتؤدة

[2]عربياً، معادل philia    هو الخُلّة

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها