لم يحقق الفيلم الألماني، المتواضع فنياً، سوى القليل من النجاح في أنسنة ماركس الشاب. فعلى سبيل المثال، يبدو المشهد الذي يمارس فيه الجنس مع زوجته، بلا سياق على الإطلاق، ومقحماً تماماً على سردية الفيلم، لمجرد التأكيد على أن ماركس كان يمارس الجنس مثلنا جميعاً. يقدم الفيلم معالجة بصرية مبالغ في رومانسيتها، ويظهر ابتذالها بشكل أوضح في شخصية ميري بيرنز، حبيبة انغلز الإيرلندية، والتي لا تظهر هيئتها هي ورفاقها، متوافقة مع هيئة الطبقة العمالية البريطانية في القرن التاسع عشر والتي تنتمي إليها، بل تشبه المعالجات السينمائية لروايات جين أوستن، التي تدور أحداثها في أجواء أرستقراطية خالصة، حيث يبدو أن مخرج الفيلم، راؤول بيك، قد خلط بينها وبين ما تصوره الحياة حينها، في الأحياء العمالية في مانشستر.
في المقابل، تقدم المسرحية لجمهورها اللندني، حبكة من الأحداث، تدور بين حي "سوهو" في وسط لندن، وبارات "إيرلز كورت" التي يعرفونها جيداً. لا تكتفى بعرض صورة حميمية لماركس، ككاتب بوهيمي، يجد صعوبة في تدبير ما يكفي من المال لإطعام أطفاله، ويلجأ إلى الشراب للهروب من مشاكله، وللاستدانة من صديقه أنعلز معظم الوقت، فيما يخون زوجته مع المربية التي تحمل منه. بل تذهب، عبر خليط من كوميديا الموقف، واللعب على تنظيرات ماركس عن العمل والقيمة والطبقة، إلى رسم صورة شديدة الذكاء لماركس البرجوازي، وللماركسية نفسها كمنتج برجوازي في الأساس.
في واحد من أكثر مشاهد المسرحية درامية، يقف إنغلز موبخاً ماركس، على شعوره التافه بالشفقة على الذات، ويخبره أنه لا يعرف شيئاً عن المعاناة، ويصف له ما تعنيه تلك الكلمة في أحياء الطبقة العاملة الإنكليزية. لا مكان إذاً للعبقرية الفردية، فماركس يظهر مديناً لإنغلز، ودراسته من قرب للطبقة العاملة في مانشستر، لتطوير نظرياته. في المشهد تلو الآخر، يلتقط من زوجته، والمربية وغيرهما، أفكار نظريته. وفي المشهد الأخير، يجلس مع أسرته، ليقرأ عليهم بعضاً مما كتبه في "رأس المال"، لنُفاجأ بأن كل المصطلحات الماركسية الأشهر، كانت من قريحة زوجته ومربية أطفاله واللتين لم تتوقفاً عن مقاطعته، وتقديم مصطلحات بديلة.
تنجح المسرحية بشكل كبير في أنسنة ماركس، وبرجزته أيضاً، ونزع هالة الفردية عن إنجازه الفكري. وفي الوقت نفسه، تقديم ساعتين من الضحك المتواصل والممتع. لكن المفارقة الأكثر دلالة في كل هذا، أن المسرحية التي حققت مبيعات بأكثر من مليون جنيه إسترليني، حتى قبل بدء عرضها، وهو حدث نادر في المسرح البريطاني، في ما خلا العروض الغنائية. كانت "ماركس الشاب" هي العرض الافتتاحي لمسرح "الجسر"، وهو أول مسرح بهذا الحجم يُفتتح في لندن منذ عقود ثمانية، بتمويل من القطاع الخاص. فبالطبع، ليس هناك ما هو أكثر ملاءمة من مسرحية عن ماركس، ونقده لرأس المال، لافتتاح المسرح الأول الممول برأسمال خاص، على الضفة الجنوبية للتايمز.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها