الأحد 2017/11/05

آخر تحديث: 08:49 (بيروت)

برودسكي... محاكمة عبثية لشاعر

الأحد 2017/11/05
برودسكي... محاكمة عبثية لشاعر
حقر القاضي من قيمة برودسكي ولا يعترف بما يكتبه
increase حجم الخط decrease
 

ذات صباح شتوي جميل في لينينغراد قبل نحو 60 عاما من الآن، نهض طفل من مقعده الدراسي في أوج الدرس، وبطريقة مسرحية خرج من الصف وهو يعرف تماما أنه لن يعود إليه أبدا. كان مبرره الوحيد لترك مقاعد الدراسة أنه يرى رؤوسا في غرفة الدرس لا يستطيع تحمل رؤيتها، ولم تكن تلك الرؤوس سوى للينين، قائد الثورة البلشفية وبعض رمزوها، والتي كانت تزين جدران غرفة الصف. بذلك الخروج كان يعلم أنه يمر من عالم كافكوي إلى آخر، لكنه في تلك اللحظة، لم يكن يفكر إلا في استبدال ذلك العالم لأنه ببساطة لم يعد يتحمله. ذاك الطفل كان برودسكي، وكانت تلك أول مبادرة رفض هادئة يقوم بها.

في عمر الخامسة عشرة عمل في مصنع لصناعة المدافع، تحول في ما بعد إلى صناعة الماكينات الزراعية وآلات ضغط الهواء، تركه ليعمل في مستشفى، وغادره ليعمل في أماكن أخرى، ثم تخلى عن هذا كله وكرس نفسه للشعر.

في العام 1964 قُبض على برودسكي، وحكم عليه في محاكمة شهيرة بالسجن خمسة أعوام مع الأشغال الشاقة في عمر الرابعة والعشرين، وهذه الفترة العصيبة هي التي شكلت وجدانه وخلقت منه شاعرا كبيرا، وشكلت في الوقت ذاته نواة كتاب صغير سجل وقائع المحاكمة الأولى لشاعر، بجريمة "التطفل" وهي أول مواجهة قانونية بين الأدب والسلطة، صحيح المواجهات قديمة ومستمرة لكنها ربما تكون المواجهة الأولى تحت سيف القانون وسلطته، ولأنها ببساطة كما يؤكد الكتاب الذي صدرت طبعة جديدة من الترجمة العربية له مؤخرا تحت عنوان "محاكمة برودسكي.. أول محاكمة لشاعر"، محاكمة حقيقية وليست من نسج الخيال، بل هي حقيقة واقعة موجودة بالوثائق التي تحمل الوقائع الكاملة للمحاكمة العبثية، إضافة على شهادات بعض النقاد والأصدقاء الشخصيين لبرودسكي، لتسجل في مجملها أول محاكمة حقيقية لشاعر، وبداية العلاقات المأسوية بين الإبداع والسلطة، تلك القضية التي لا تزال مستمرة في العالم، المدهش أنها تتشابه في كثير من تفاصيلها العبثية مع يحدث في عالمنا العربي الآن على وجه الخصوص رغم كل ما جرى... أنظمة متشابهة تكرر تجاربها الفاشلة بكل إخلاص.


محاكمة برودسكي كما جاءت في الكتاب درس حقيقي يشرح بالنماذج والأدلة، كيف تفكر الأنظمة الشمولية في الأدب، كيف تستسخف دوره، وتقلل من أهميته، سلبت حرية برودسكي فقط لأنه يكتب الشعر دون عمل "حقيقي" حسب مفهوم تلك السلطة، ولأنه لم يكن منتميا إلى اتحاد الكتاب والأدباء السوفيات آنذاك، لأنه تمرد واختلف، وقرر أن يتجاهل السلطة بكل أشكالها.

البداية كانت في 29 نوفمبر عام 1963 عندما وجد سكان لينينغراد، الذين لم يسمعوا حتى ذلك اليوم باسم برودسكي، في صحيفتهم "لينينغراد المساء"، مقالة نقدية بعنوان "المتطفل الاجتماعي على هامش الأدب"، حملت اتهامات كثيرة للشاعر الصغير، ولخصها إيفيم إيتكند أحد المشاركين في الكتاب في عشرة اتهامات، قد تظن أنه يسخر، أو أنها مجرد تعليقات متهكمة، لكنه استنبطها بالفعل من المقال المنشور أيضا في الكتاب!

منها أن برودسكي تسلق سلالم التطفل الاجتماعي وحده، في مجتمع محكوم بالسلطة الجماعية، "هذا الشاب الأصهب يريد أن يدخل بمفرده في الأدب، ويتجاوز النظام المبنى، توجد روابط أدبية حيث يتمكن الشباب من أن يتعلموا تحت عصا الأساتذة المعتمدين"، فمن هو ليفعل ذلك وحده، ويشكك في النظام برمته، كما أن جميع قصائده كتبت في دفتر مدرسي صغير لتشهد على الرؤية الكئيبة للعالم، من الاتهامات أيضا أنه يبحث عن الغريب واللامعقول والعبث، وأنه غامض يفتقر إلى المعرفة والثقافة "يجب على الإنسان السوفياتي أن يتتبع المسالك والمناهج التي تقررها السلطات، ولا يمكن قبول رجل متعلم ذاتيا". يقول المقال أيضا أن برودسكي أجهد نفسه ليشارك في القراءات العامة واستنهض اهتمام "الشباب غير الناضج الذين ينبحون مثل الكلاب من النشوة". وفي المجمل فالشعر ليس مهنة من الأساس في نظر كاتب المقال "كتابة الشعر ليست مهنة مثلما يعمل جميع الناس الذين يذهبون إلى المصانع أو يكنسون الشوارع".

عقب نشر المقال بأيام قُبض على برودسكي ليواجه الاتهام بـ"التطفل الاجتماعي"، تلك التهمة التي أطلقتها الجريدة بحق برودسكي وكانت تتضمن نتائج خطيرة، ففي 4 مايو 1961 سن "مجلس السوفيات الأعلى" قرارا حول الصراع ضد التطفل الاجتماعي، وطرد المذنبين خارج المدن الكبرى، لذا كان برودسكي معرضا للإبعاد، "صحيح أن أشعاره لم تكن سياسية، لكن كل ما كان يكتبه ويفكر به كان مغايرا.. هل يمكن أن نغفر له ذلك؟" يقول إيتكند في تعليق أخير.

أما فصل المحاكمة فهو الأبرز في هذا الكتاب، وهي محاكمة عبثية في كل تفاصيلها، ويعود الفضل في تدوين وحفظ تلك الجلسات للصحافية فريدا فيغدوروفا التي سجلت وقائع المحاكمة، رغم تهديد القاضي لها، ولولاها لضاعت وقائع تلك الجلسات التى وصفها كثيرون بالسريالية والـ"تراجيكوميدية".. فعلى امتداد جلسات المحاكمة، يحقر القاضي من قيمة برودسكي ولا يعترف بما يكتبه، يسأله: لماذا أنت عاطل عن العمل، ويجيب برودسكي بأنه يكتب الشعر والترجمة ويفترض أن عمله منتظما، ويرد القاضي: لا يهمنا ذلك، وماذا نفعل بافتراضاتك!

القاضي: ما هو اختصاصك بصورة عامة؟

برودسكي: إنني شاعر ومترجم.

القاضي: من يقرر أنك شاعر؟ ومن صنفك بين الشعراء؟

برودسكي: لا أحد، ومن صنفك بين بني البشر إذن؟

القاضي: وهل درست لتحقيق هذا الهدف؟

برودسكي: أي هدف؟

القاضي: هدف أن تصبح شاعرا، أنت لم تحاول إكمال دراستك العليا وتحضر نفسك من أجل أن تتعلم.

برودسكي: لم أكن أفكر بأن هذا الشيء يمكن تعلمه على مقاعد المدرسة.

القاضي: وماذا قدمت من فوائد للوطن؟

برودسكي: كتبت القصائد، هذا هو عملي، إنني مقتنع وأعتقد أن ما أكتبه لا يفيد الناس في الوقت الحاضر بل سيفيد الأجيال القادمة.

على هذا المنوال تستمر فقرات المحاكمة العبثية، دون أي اقتناع من قبل القاضي بما يسوقه برودسكي ودفاعه، بل وحتى الشهود الذين كان بعضهم في اتحاد الكتاب وشهدوا بتفرد ما يكتبه برودسكي وبأنه موهوب وواعد جدا، وينم عن موهبة متفردة، بل إن السلطات لاحقت هؤلاء الشهود أنفسهم في ما بعد! فطبقا لعضو اتحاد الكتاب والأدباء إيفيم إتكند، استدعى الاتحاد الشهود استنادا لخطاب من المحكمة قال إنهم "برهنوا على عدم وعيهم السياسي"، وبناء عليه تم استدعاؤهم لاجتماع عاجل، تلقوا خلاله مجموعة من التهم منها أنهم أدلوا بشهادتهم دون الحصول على تصريح من الاتحاد، وأن شهادتهم كانت تجري بعكس قرارات الإدارة، وأنهم أثبتوا عدم نضجهم وأنهم غير ملمين بالسياسة!

فطبقا لما دونه إتكند بعد ذلك اتضح أن القاضي كان يلمح إلى اتهامات سياسية أيضا بحق برودسكي، وأنه لم يكن مدانا بسبب الشعر فقط! وهي الاتهامات التي لم يتضح أو يثبت أي منها في ما بعد.

يقول إتكند إنه ذهب إلى رئيس المحكمة قبل أيام من المحاكمة، بصفته المسؤول عن قسم الترجمة وعضوا في لجنة العمل مع الأدباء الشباب، واستقبله بدون اهتمام، لأنه حاول أن يشرح أنه من المستحيل اعتبار برودسكي متطفلا اجتماعيا فقط، لأنه كتب وترجم أشعارا تحت ذريعة أنه ليس عضوا في اتحاد الكتاب والأدباء "استمع إلي باهتمام، أحنى رأسه بصمت، وأفهمني أن تهمة التطفل الاجتماعي لم تكن سوى تهمة شكلية، لأن في حوزتنا ملفا آخر ضد برودسكي".

وعندما طلب الاطلاع على تلك الملفات أخرج له القاضي قصيدة هجاء لم تكن لبرودسكي من الأساس!

يقول إتكند "حين أقرأ الآن ما سجلته خلال المحاكمة بعد مضى سنوات عليها يتهيأ لي وكأنني أشاهد محاكمة ساخرة. لكن آنذاك لم يكن لدينا رغبة في الضحك إطلاقا" لأن القاضي ووكيله لم يكونا بالممثلين ولم يكونا يقدمان مسرحية هزلية بل كانا يمثلان القانون والسلطة وكانا يقرران مصير إنسان، وبشكل عام يرى إتكند أن القاضي كان في وضعية صعبة، لأنه كان قد تلقى "أمرا" بأن يُلحق ببرودسكي أقصى العقوبات "ليس مهما من أصدر الأمر لجنة الحزب أو الـ كي جي بي المهم أن القاضي تلقى بالتأكيد مكالمة هاتفية صبيحة اليوم نفسه".

وبالتالي صدر الحكم بإجماع: تطبيقا لقرار مارس 1961 تم الحكم على برودسكي بـ 5 سنوات منفى وبأشغال شاقة في المناطق البعيدة.

تعليق إتكند على المحاكمة وعبثيتها بعد مرور سنوات عليها، يذكر إلى حد كبير بما جرى ويجرى هنا في عالمنا العربي؛ كان القاضي نفسه لا يدرك عمق القضية والمحلفون كذلك لم تكن لديهم أدنى فكرة عن الأدب والعمل الأدبي، أما الشهود فلم تكن لديهم أيه شهادة لأنهم بكل بساطة لم يكونوا يعرفون المتهم ولا كتاباته، أما وكيل المحكمة فإنه اعتمد في هجومه واتهاماته على تقارير كاذبة مبررا اتهاماته بأشعار لم يكتبها المتهم "ألقى القاضي العقوبة كما طُلب منه، لكن الحكم كان مقررا من قبل، وبالفعل تمت المحاكمة على ما يرام يعنى بالشكل الذي رسم لها ولا داعي للمضمون فهو ليس بالمهم، فالمضمون لم يكن مطلوبا التوقف عليه أو فهمه".

أطلق سراح برودسكي في عام 1966 وعاش في الولايات المتحدة منذ عام 1972، وفي خريف عام 1978 منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب، اعترافا بقيمة ما كتبه، أو ربما تقديرا لما تعرض له من قبل.


(*) كتاب "محاكمة برودسكي.. أول محاكمة لشاعر" تأليف: هيلين كاريير دانكوس، وإيفيم إيتكند، وجانين ليفي، وفريدا فيغوروفا، وليديا تشوكوفسكايا، وشارل دوبزينسكي. ترجمة: شاكر نوري، وصدر عن دار سطور ببغداد.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها