الجمعة 2017/11/03

آخر تحديث: 11:14 (بيروت)

وَعدُ مَن لا يَملِك

الجمعة 2017/11/03
increase حجم الخط decrease
في الذكرى المئوية لـ"وعد بلفور" الذي مهد الطريق لإنشاء إسرائيل، أعلنت الحكومة البريطانية اعتزازها بهذا الوعد، وأدلى وزير الخارجية بوريس جونسون بتصريح قال فيه: "إني فخور بدور بريطانيا في إنشاء إسرائيل، وستحيي حكومة جلالة الملكة مئوية وعد بلفور الخميس بهذه الروح". وأضاف: "لا أرى أي تناقض في أن أكون صديقاً لإسرائيل، ومؤمناً بقدرها، وأن أكون في الوقت نفسه متأثراً جداً بمعاناة من تأثروا بميلادها وطردوا بسببه".

واعتبر جونسون أن "الوعد" دعا إلى حماية "الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، وأن هذا "التحفظ القانوني الأساسي" الذي صيغ لحماية هذه الجماعات، "لم يُلتفت إليه بالكامل". في المقابل، رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي، قبل أن يتوجه إلى بريطانيا للاحتفال بهذه المئوية "انه قد حان الوقت بالنسبة إلى الفلسطينيين ليتعايشوا مع الماضي"، وأضاف: "ان الفلسطينيين يقولون إن وعد بلفور كان مأساة، وهو لم يكن مأساة، لأن المأساة هي رفضهم قبول هذا بعد مئة عام. آمل أن يغيروا موقفهم، لأنهم إن فعلوا ذلك فسيسيرون قُدماً في اتجاه إحلال السلام بين شعبينا".

في آذار/مارس 1914، تحدث رئيس بلدية القدس، حسين سليم الحسيني، إلى مندوب صحيفة "الإقدام" المصرية، فقال إن "الحركة الصهيونية لا تشكل خطراً على فلسطين لأنها ليست حركة سياسية، والخطر هو في حركة الاستيطان، لذا يجب سنّ القوانين الجديدة لمنع اليهود من شراء الأراضي". في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، بعث وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، برسالة تعبّر عن تأييد حكومته لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ونصّها: "إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل هذه الغاية، على أن يُفهَم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر".

بعد فترة وجيزة، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى واندثار الدولة العثمانية، سلّم سليم حسين سليم الحسيني، مفاتيح المدينة إلى جيش الاحتلال البريطاني في 9 كانون الأول/ديسمبر 1917، بموجب الاتفاق الذي عقد في اليوم السابق مع متصرف المدينة العثماني عزّت باشا. توجّه رئيس بلدية القدس، ومعه عدد من رجال الشرطة وفريق من شبان المدينة، إلى قرية لفتا، عند الحدود الغربية للقدس، وسلّم المبعوث البريطاني رسالة من توقيع عزت باشا يقول نصّها: "إلى القومندان الإنكليزي، منذ يومين والقنابل تتساقط على القدس المقدّسة لدى كلّ ملّة، فالحكومة العثمانية محافظة على الأماكن الدينية من الخراب والدمار، سحبت القوة العسكرية من المدينة، وأقامت موظفين للحفاظ على الأماكن الدينية، كالقيامة والمسجد الأقصى. وعلى أمل بأن تكون المعاملة منكم على هذا الوجه، فإنني أبعث بهذه الورقة مع حسين بك الحسيني، وكيل رئيس بلدية القدس".

وقف العرب إلى جانب الحكومة البريطانية، بعدما تعهدت للشريف حسين بمساعدتهم على تحرير بلادهم، وعند انتهاء الحرب، تخلّت بريطانيا سريعاً عن وعودها المزعومة، وسعت إلى صفة جغرافية خاصة بفلسطين. اندلعت انتفاضة "موسم النبي موسى" في القدس، في نيسان/ابريل 1920، وتبعتها "انتفاضة يافا" في العام التالي، وذلك بعدما أعلن "المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث" رفضه سلطة الانتداب و"وعد بلفور"، وطالب بوقف الهجرة اليهودية وإنشاء حكومة وطنية في فلسطين. مع إعلان عصبة الأمم، وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني في تموز/يوليو 1922، تحوّل "وعد بلفور" إلى قاعدة انطلاق لتهويد البلاد، فتواصل دفق المهاجرين اليهود، وبلغ عددهم مئة ألف خلال بضع سنوات. توالت المواجهات بين الفلسطينيين والصهاينة الوافدين في تلك الحقبة، وبلغت ذروتها مع انتفاضة "البراق" في صيف 1929.

ونقلت الصحافة العربية وقائع هذه الانتفاضة، فكتبت مجلة "المصوّر" المصرية: "بين العرب واليهود في فلسطين خلاف قديم يرجع إلى وعد بلفور المعروف، فالعرب يرون أن أرض فلسطين بلادهم، واليهود يعتقدون أنهم أهالي فلسطين الأولون، وقد زاد الخلاف بينهم من جراء سيل المهاجرين اليهود الذي تدفق على فلسطين منذ انتهاء الحرب". 
مع حلول ذكرى "وعد بلفور"، عمّ الإضراب سائر المدن الفلسطينية، ونشرت "المصور" صورة لشاب في حيفا يهتف رافضاً هذا الوعد المشؤوم أمام حشد غفير من المتظاهرين، كما نشرت صورة ثانية يظهر فيها تجمّع أبناء هذه المدينة في فناء الكنيسة المارونية "حيث ألقيت القصائد والخطب الحماسية". في القدس، رُفعت الأعلام السّود "دلالة على الحزن والحداد"، و"تضامن المسيحيون مع المسلمين في الإضراب العام الذي أُعلن في فلسطين يوم ذكرى اعلان وعد بلفور احتجاجاً على عدم إلغاء هذا الوعد الذي اعتبره الفلسطينيون مجحفاً بحقوقهم القومية والوطنية منذ اعلانه"، وتجلّى "اتحاد العنصرين" في صورة أخرى نشرتها "المصوّر" تمثّل في الإضراب الذي عمّ "حي النصارى".

استمرّت هذه الانتفاضات في الثلاثينات، فكانت "ثورة تشرين" 1933، ثم "الثورة الكبرى" التي تواصلت فصولها بين 1936 و1939. في هذه الحقبة، نشر الباحث البريطاني ج.م.ن. جيفريس، دراسة أكاديمية مطوّلة حملت عنوان "فلسطين: الحقيقة. حيثيات اعلان بلفور 1917- 1938"، وقُضي على هذا الكتاب في العام 1941 حين تعرّضت لندن للقصف الجوي من الطائرات العسكرية الألمانية، فاختفى من الأسواق، إلى أن أعيدت طباعته مؤخراً. قبل ذلك، عمدت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" إلى نشر الكتاب بلغته الأصلية في بيروت العام  1968، وراجع رفيق خوري هذا البحث في مقالة نُشرت في "ملحق النهار" في ذكرى وعد بلفور، وكتب معلّقا: "الملاحظة الأساسية الأولى التي يبرزها الكاتب هي ان بلفور ليس وحده كاتب الرسالة. فقد شارك الصهيونيون في كتابتها، وظلّوا عامين كاملين يختارون الكلمات. ولم يقتصر الأمر على الصهيونيين في بريطانيا، انما شمل الصهيونيين في الولايات المتحدة الأميركية". وهذا ما يشير إليه ناحوم سوكولوف في كتابه "تاريخ الصهيونية"، حيث يؤكّد ان "كل فكرة وُلدت في لندن أُخضعت للتجربة لدى المنظمة الصهيونية في أميركا، وكل اقتراح ظهر في أميركا لقي اهتماماً بالغاً في لندن".

يسلّط الباحث البريطاني الضوء "على الأهداف البعيدة الخبيثة التي تكمن في الـ67 كلمة التي تتألّف منها رسالة بلفور، والطريقة التي اختار بها واضعو الرسالة الكلمات، والأسلوب الذي صاغوه به". تقول هذه الرسالة: "إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، ويعني ذلك أن بريطانيا ستسعد لو نجحت الصهيونية في إقامة الوطن القومي، وهي غير متورُطة في هذا المشروع في حال فشلت الصهيونية في تحقيقه. وتضيف الرسالة: "وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"، والمعنى ملتبس، فلا نعرف ان كان المقصود تقديم يد المساعدة، أم عدم عرقلة العملية. اختار واضعو هذه الرسالة تعبيراً جديداً يومها، وهو عبارة "البيت القومي"، ولم يحدّدوا معناه، كما أن الحكومة البريطانية لم تحدّد معناه في الشروح والتصريحات التي تبعت نشر الرسالة.

يتجلّى خبث واضعي الرسالة في الحديث عن "الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين". فعدد اليهود المتواجدين في فلسطين عند كتابة هذه الرسالة، كان ستين ألفاً، نصفهم من غير سكان البلد الأصليين، وهم يشكّلون 9% من سكان البلاد، بينما يشكّل العرب 91%. من هنا، يمكن القول أن وصف العرب بـ"الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، يشابه وصف الشعب الإنكليزي بـ"الشعب غير الإفريقي الموجود في بريطانيا"، فعدد هذا الشعب 670 ألفاً، أما الشعب "الأفريقي الموجود في بريطانيا"، فلا يتجاوز عدده الستين ألفاً. 

في هذا السياق، يتوقّف جيفريس عند عبارة "الحقوق المدنية"، ويستعيد حواراً ورد في حكاية من أشهر حكايات أدب الأطفال الانكليزية، وهي "أليس في بلاد العجائب". في هذه الحكاية، تقول الملكة البيضاء لأليس: "أنا أضمن لك حقوقك المدنية"، فتسألها الطفلة: "شكراً، لكن ما هي هذه الحقوق؟"، فتجيب الملكة: "لا أقدر أن أجيبك لكني سأضمنها لك بقوة". ويروي جيفريس هنا أنه سأل مسؤولاً بريطانياً كبيراً في القدس أن يحدّد له معنى الحقوق المدنية، فأجابه الموظّف: "من الصعب جداً تحديدها". في الواقع، تحدث بيان المنظمات الصهيونية في تشرين الأول/اكتوبر 1916 عن "الحقوق الكاملة التي تشمل الحقوق المدنية والدينية والسياسية". وحذف الصهاينة من وعد بلفور كلمة "السياسية" بالنسبة الى حقوق العرب، وأيّدت فرنسا نص الرسالة بعد هذا الحذف، بينما اعترضت عليه إيطاليا، وأضافت الكلمة المحذوفة إلى النص الذي أصدرته. في المقابل، سخر الصهاينة من هذه "الحقوق"، وأكّدوا أن العرب لا يملكون حقوقهم كبشر، لأن الأتراك يعاملونهم على أساس انهم بلا حقوق.

بعد مرور مئة عام، تتكرّر اللعبة البريطانية بشكل مماثل. يشير وزير الخارجية بوريس جونسون إلى دعوة بلفور لحماية "الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، ويؤكّد أن هذا "التحفظ القانوني الأساسي" الذي صيغ لحماية هذه الجماعات "لم يُلتفت إليه بالكامل". تحتفي إسرائيل بصاحب الوعد، آرثر بلفور، وقد أطلقت اسمه على بعض الشوارع وعلى مدرسة في تل أبيب. في الجهة المعاكسة، يصف الفلسطينيون الوعد، بأنه وعد من لا يملك، ويتظاهرون في الضفة الغربية المحتلة ملوّحين برايات سود، ويسيرون إلى المركز الثقافي البريطاني في مدينة رام الله، مطالبين بريطانيا بالاعتذار عن منحها اليهود حق إقامة وطن في فلسطين. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها