الإثنين 2017/11/27

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

التجنيد في زمن الشعبوية الثقافية

الإثنين 2017/11/27
التجنيد في زمن الشعبوية الثقافية
فيافني طلبت من عيتاني أن "يحسن مظهره".. فتطورت من مُجنِّدته إلى مستشارته للنجومية
increase حجم الخط decrease
ثمة شيء لا بدّ من الإنتباه له في قضية التجنيد الإسرائيلي لزياد عيتاني، وهو إتصاله بالسردية التي لطالما قدمها عن بيروت في مسرحيات يحيى جابر. ففي هذه السردية، بيروت هي كناية عن كليشيه طويل، يدور، عند وصوله إلى الذروة، حول "الزمن الجميل"، بالإضافة إلى لقبها فيه، أي "سويسرا الشرق"، قبل أن يبدأ بالإنحدار بفعل الحرب، والأطوار اللاحقة على انتهائها. هذه المدينة، مثلما تظهر في أوج سرديتها، كانت، وفي جزء منها، مسرحاً بوليسياً، حيث صُور التحرر تتداخل مع صور الخطر المداهم. ومن الصور الأولى، هناك العرض الجسدي. ومن الصور الثانية، هناك الإختراق الجاسوسي.

إذ عمدت المجلات الإباحية، التي كانت رائجة في الستينات والسبعينات اللبنانية، إلى الربط في صفحاتها بين الخبر الجنسي والخبر الأمني، في قصص تحمل عناوين مشوقة، من قبيل "شبق النمرة الصهيونية". فقد شكلت الجاسوسية موضوعاً لهذا الارتياب (بارانويا)، الذي اعترى الإجتماع في أثناء تحوله إلى غيره، وفي أثناء انهيار سلطته القديمة، والتي حذرت الأبناء، بنبرة أبوية متداعية، من مغبة مخالفة أوامرها: تحرُّركم سيودي بكم إلى التهلكة، فبين النساء، بوصفهن لهوة شيطانية تستمعون بالتفرج عليها أو مضاجعتها، يكمن العدو!

وكبر الأبناء، وأنجبوا أولادهم الذين شبوا خلال التسعينات، متنقلين من العائلة إلى ملعب كرة القدم، ومن ملعب كرة القدم إلى الإطار الحزبي، ومن الإطار الحزبي إلى المجال الإعلامي. ومن بعدها، حدثت الثورة: الإنفجار الميديوي، المحطات الفضائية، الإنترنت، ومن بعدها مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته. والأولاد، الذين بدأوا بدورهم ينضجون، وجدوا ملاذهم فيها. إنه الملاذ المختلف عن ملاذ الآباء الذين عاشوا مرحلة التحرر، أي يوم كان تخطي العادات والتقاليد ما زال مثيراً. أما ملاذ أولادهم، فأي تخَطًّ فيه لتلك العادات والتقاليد هو مجرد محاكاة لما جرى سابقاً، ومجرد إعادة تدوير له. بالتالي، كان الآباء أبناء التحرر، أما أولادهم فأبناء التحرروية. الأول، كان يثير التلفزيون والجريدة والراديو. والثانية، تقوم على الهجس بجذب هذه الوسائل وغيرها. في ملاذ الآباء، كانت "لعبة إغراء" بين النخب المحافظة، والفنان المتمرد. في ملاذ الأبناء، ما عادت النخب محافظة، واضمحل الفنان المتمرد. إذ أنتج ملاذ الأبناء مكانه المسترجع، مرةً كمؤدٍّ، ومرةً كبهلول، ومرةً كحكواتي، وفي كل المرات كشعبوي ثقافي مُحرِّكه الوحيد هو الشهرة.

مَن يقرأ التعريف الذاتي لعيتاني، يلاحظ أنه يجمع بين العمل في الصحافة والعمل في التلفزيون والعمل في المسرح، من "بيروت-طريق جديدة" إلى "بيروت فوق الشجرة"، مروراً بـ"بار فاروق". مثلما أنه "يعمل" في فايسبوك بواسطة حسابه، الذي يصوغ صورته العامة على جداره. المشترك بين كل هذه المجالات، هو كونها شعبوية ثقافية، لا سيما المسرحيات التي مثّل فيها عيتاني. فهمُّها الأساس هو جذب المتفرجين، كما أن المشترَك بينها أيضاً هو كونها كرّسته كمسترجِع، خصوصاً في شخصية الحكواتي، وكرّسته كمحب للذيوع الذي تتنوع سبله إلى تحقيقه: من التلويح بأنه "أوّل مسرحي يعرض عملين في الوقت ذاته"، إلى ذكر عدد الزوار: 3500، بالإضافة إلى مسلك تعليقي مفرط، على كل شاردة وواردة في كل مشهد من المشاهد. لكن جذب العيون له أثمانه، كقياس الحضور بحسب بيان الصورة في عيون الأغيار، وعدم الإيمان بأي ملفوظ أو قول، والتأرجح بين الإندفاع والوهن. وفي النتيجة، الهوس بمراكمة الحب من الكل، وشد نظراته، وذلك عبر إمتاعه، وهذا محال طبعاً.

فعيتاني هو المسترجع، الذي أنتجته الشعبوية الثقافية، وقالت له: أن تكون يعني أن يحبك الكل، ويواصل التفرج عليك، ممنوع غياب النظرات عنك، وعليك أن تفعل أي شيء لتجذبها صوبك. وفعلياً، المستمع إلى عيتاني، ينتبه إلى رجفة متقطعة تنتاب حديثه، بحيث يوحي دائماً بأن دخوله إلى الكلام محكوم بالخوف من عقاب على خطأ محدد يقترفه، أي ترك صورته التي كان فيها، ويتوجب عليه دوماً أن يرجع إليها لكي ينمّيها. فهي موطنه الذي يطل منه على الكل، والذي لا يمكنه أن يطل من غيره، وإلا ما عاد موجوداً.

في هذا الكل، وبعدما انطلق عيتاني في محاولة جذبه، فايسبوكياً أو عبر "بيروت-طريق الجديدة"، ظهرت الضابط الإسرائيلية كوليت فيانفي. بدايةً، كإمرأة سويدية، "بيضاء طويلة ذات شعر أسود وعينين خضراوين"، بحسب وصفه لها خلال التحقيقات معه، ثم لاحقاً، كجاسوسة. استغلت فيافني إقلاع عيتاني في صياغة صورته العامة، وعلى الأغلب، قدمت نفسها كمعجبة به، أي المعجبة التي تخاطب بهيئتها مخيلته الجمالية، وبأجنبيتها تدغدغ تطوير شهرته من المحلية إلى العالمية. إلا أنها، وهنا المهم، كشفت له عن هويتها كجاسوسة، فلم يقطع معها التواصل، وبما أنه لم يفعل ذلك، فمن الممكن أنها، وعند بدئها بتجنيده، استغلت شخوصه الشعبوي الثقافي.

إذ إن عيتاني هو مسترجِع سردية بيروت، وذروتها، أي "الزمن الجميل"، ومسرحه البوليسي. ومن سمات المسترجع، مثلما تريده الشعبوية الثقافية، أنه لا يؤمن بأي من الحكايات التي يستعيدها، فهو يستعيدها لتسلية الجماهير ولجذب عيونهم فقط لا غير. تالياً، ولما قالت فيافني لعيتاني إنها جاسوسة، فربما اعتقد أن الجاسوسية هي شأن مسرحي بحت، موجودة في السردية، لكن ليس خارجها. وعليه، كان من السهل أن يجد موقعه فيها، وأن يأخذ بها، بلا أي تساؤل عن فداحتها: أنتِ جاسوسة، وأنا البيروتي الذي تُغريني وتسقطيني في فخك! فكما يمثّل تلك السردية، كحكواتي، بمقدوره أن يمثلها كشخصية فيها. ذلك أن التواصل مع الجاسوسة هو استمرار للسردية، وليس "اختراقاً" لها.

وحين راحت فيافني تجند عيتاني، طلبت منه أن "يحسن مظهره" لكي يتقرب من النخب. وفي هذا السياق، لا مناص من ملاحظة أن فيافني تبدو مُدركة بأن الطريق إلى النخب لا تستدعي سوى "حسن المظهر"، أي الثياب المرتبة، وربما الخطاب البسيط، إلى جانب كمٍّ من الآراء والمقولات السريعة. فهي ليست النُخب القديمة، نُخب "الزمن الجميل" التي كان الفن المتمرد يثيرها، بل هي نُخب الإنهيار التي تجد في الإسترجاع حلاً، ولذلك تنتج فنانيه لتسليتها، ولكي يسلكوا سبيلهم صوبها، وما عليهم سوى أن يتسموا بمظهرها، ويلتقطوا معها الصور، ثم ينشروها.

"يحسّن" عيتاني "مظهره"، وهذا ما طلبته منه الضابط الإسرائيلية، وهذا ما تقاطَع مع شخوصه الذي تحركه بغية جذب الكل، في الإفتراض أو بعيداً منه. وأيضاً، لا مناص من ملاحظة، أن فيافني، ولأنها تستغل رغبة عيتاني السابقة على ظهورها في الكل، وتطلب منه "تحسين مظهره"، تتحول من مُجنِّدته إلى مستشارتِه: تريد أن تصير نجماً؟ عليك "تحسين مظهرك". وقد يكون هذا ما يجيب على الإستفهام الذي طرحته كثرة: لماذا قَبِل أن يتعامل مع العدو الإسرائيلي مقابل مبلغ زهيد من المال؟ لأن فيافني لا تصنع فيه بُغيةً يرفضها، بل إنها بغية موجودة لديه، وبالتالي، ظن أنها تقدم له الإستشارة لتحقيقها بقدر ما تستفيد منها. مقايضة بين شركة إنتاج النجوم والزبون: تنصحه بكيفية تحقيق النجومية، وهو بدوره يؤمّن لها المعلومات.

إنها مأساة فنان الشعبوية الثقافية، الذي طمح إلى أن يكون نجماً، فيحصل على حب الكل، ويُمتع الكل. وفي النهاية، أضحى مخبراً إسرائيلياً، ولم يحقق بغيته التي، في الأساس، هي مُحالة (من هو زياد عيتاني؟ استفهم عدد هائل من الناس). إنها المأساة أنتجت جواً من هذيان الارتياب، مُعززةً أصواتاً تطالب بالإستبداد، وأخرى تطالب بالقمع، أو بالرقابة المشددة. أصوات تشارك، وعلى منوال الشعبوية الثقافية إياها، في استرجاع نبرة سلطوية كانت قد تلاشت، وإن ترفّعت الآن بطريقة كاريكاتورية. فلا تجد مانعاً من الدعوة إلى العنف لتثبت أنها عكس ذلك. تحرُّر الأباء في "الزمن الجميل"، صار تحرروية يغذيها الأولاد. وسُلطة الأجداد التي كانت تحذر في "الزمن الجميل"، صارت تسلطية يغذيها الأحفاد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها