يختلف دور المحرّر الأدبيّ عن دور المدقّق اللغويّ، فالمدقّق اللغوي يراجع النصّ ويبحث عن الأخطاء اللغوية، ليصوبها، وقد يسهو في انغماسه في تقصّي الأخطاء وتصويبها عن كثير من النقاط الأخرى المتعلّقة ببنية النصّ نفسه، سواء كانت تلك المتعلّقة بالبناء الفنّيّ، أو بتركيبة الشخصيّات، ومواءمتها لواقع العمل الأدبيّ وخدمتها إياه، وانسجامها ضمن هيكليّة العمل ككلّ أو تلك المرتبطة بالبناء اللغويّ وإيقاع المقاطع وتقديم الفصول وتأخيرها، أو تصدير أحداث أو تعزيز شخصيات أو الحدّ من دورها وغير ذلك ممّا يتعلّق ببنية العمل.
يتفحّص المحرّر الأدبيّ النصّ من زوايا مختلفة، فمع اهتمامه بالأسلوب، وحرصه على اللغة وسلامتها، يحرص على إيصال العمل إلى صيغته النهائيّة، وإن اضطرّ أحياناً إلى إعادة بناء بعض المقاطع، أو حتّى بعض الشخصيّات، ويقدّم اقتراحاته لسدّ بعض الثغرات الفنّيّة هنا أو هناك في العمل. وقد يقترح إضافة محاور أو أفكار تضفي مزيداً من التشويق والإغناء على العمل الأدبيّ.
كما قد يقترح تغيير مصائر شخصيات بعينها، أو دفعها بهذه الوجهة أو تلك، بما يجده متوافقاً مع خطّ سيرها وتحرّكها طيلة الأحداث التي أوقعه الكاتب فيها، بحيث تكون أكثر قدرة على الإقناع، وتصل إلى درجة من التبلور الذي يفترضه المحرّر، ويراه الأنسب.
هناك أمثلة كثيرة في تاريخ الأدب عن محرّرين أصبحوا رموزاً في صناعة النشر، وآخرين اختطّوا مسارهم الإبداعيّ الخاصّ وحقّقوا إنجازات لافتة في عالم الأدب. من هؤلاء مثلاً الروائية الأميركية طوني موريسون (1931)، الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة 1993، والتي تعدّ من أبرز الكاتبات بين السود في أميركا، إذ كانت قد عملت مستشارة ومحرّرة في إحدى دور النشر لسنوات، وذلك قبل أن تتفرّغ لعملها الخاصّ، وتجنح في عالم الأدب والخيال بعيداً عن عملها التحريريّ وترقيعها وترميمها لنصوص الآخرين، وبعيداً عن مناقشاتها الدائمة مع الأدباء، وإصرارها على البحث عن سبيل لتحقيق حلمها الشخصيّ لا أن تبقى جسراً للآخرين لتحقيق طموحاتهم وأحلامهم وذواتهم.
هناك فيلم "العبقري" للمخرج البريطانيّ مايكل جراندج تناول علاقة الكاتب الأميركيّ توماس كلايتون وولف (1900- 1938)، مع الناشر والمحرّر الشهير ماكسويل بيركنز؛ الذي نشر وحرّر أعمالاً لكتّاب بارزين منهم، إرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وغيرهما. وقد أبرز الفيلم الدور الكبير الذي لعبه ماكسويل كمحرّر في اختيار وانتقاء ما وجده مميزاً من آلاف الصفحات التي أعطاه إياها وولف، الذي كان يكتب بغزارة وفي مختلف الأوقات. كما يثير أسئلة عن دور المحرّر في تقديم الكاتب بصيغته النهائيّة، وتدخّله في توجيه جموح الكاتب أو ترويض جنونه، وتهدئة ثورته، ثمّ ترتيب أفكاره، بحيث يعمل المحرّر على صناعة شخصيّة الكاتب وكتابه في الوقت نفسه بالصيغة التي يرتئيها أنسب للتقديم والنشر.
الأرجنتيني ألبرتو مانغويل تطرّق في كتابه "مدينة الكلمات" إلى التشييء وتسليع الأدب والفنّ. أشار إلى أنّ في عالم الكتاب، تحدث عملية التشييء عبر تلاعب صناعيّ يعرَف باسم عملية التحرير التي رسخت مغالطات عديدة كانت موضع كثير من الأدباء والفلاسفة. ويذكر أنّ أخطر واحدة بينها هي تلك التي تفترض أن النصّ الأدبيّ "قابل للكمال": أي بمعنى أن الكتابة يجب أن تتوق إلى نوع من النموذج البدئي الأفلاطونيّ، نموذج مثاليّ للنصّ الأدبيّ. ويشير كذلك إلى أنّ هذا يستتبع، من ثمّ، أنّ هذه الفكرة المثالية يمكن بلوغها بمساعدة اختصاصي، محرر يؤدّي دور ضابط إيقاع أو ميكانيكيّ يمكنه تحسين النصّ إلى "درجة الكمال" عبر مهارات قراءة احترافية. وبذا لن يعدَّ الإبداع الأدبيّ "عملاً قيد التطوّر" من حيث الجوهر، غير مغلق أبداً، غير حاسم أبداً، سيكبح لحظة نشره، بل نتاج شامل، بهذه الدرجة أو تلك، ينطلق به الكاتب، وينهيه محرّر، ويوافق عليه اختصاصيون متنوّعون في التسويق والمبيعات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها