الخميس 2017/11/23

آخر تحديث: 15:03 (بيروت)

"الجانب الآخر للأمل".. إنسانية أوروبا المفقودة

الخميس 2017/11/23
"الجانب الآخر للأمل".. إنسانية أوروبا المفقودة
يمر الفيلم بمأزق بنائي يتمثل في محاولة ربط قصة خالد بحساسية كوريسماكي
increase حجم الخط decrease

منذ أوائل الثمانينيات وحتى أواخر التسعينات، أنجز الفنلندي آكي كوريسماكي أفلاماً بمعدل رقمي مشابه للأميركي وودي ألن، فيلم كل عام، منذ باكورته الإخراجية "الجريمة والعقاب" عام 1983 حتى "سحب مندفعة" عام 1996. ورغم انتقاله من الكوميديا الهزلية في "رعاة بقر ليننغراد يذهبون إلى أميركا" (1989)إلى اليأس القاتم في "فتاة مصنع الكبريت" (1990)، إلا أن ثمة خط موحّد للفيلمين يحمل تعاطفاً مع نضالات الطبقة العاملة الفنلندية ويدين كثيراً للفرنسي روبير بريسون، في تقشفه البنائي الصارم والأنيق واقتصاده الشكلاني، وإن كان ذلك لخدمة الكوميديا في حالة كوريسماكي بدلاً من رؤى المعلم الفرنسي عن التسامي والنعمة المبروكة.

لم تسفر السنوات العشر الأخيرة في مسيرة كوريسماكي إلا عن "لوهافر" في عام 2011، والآن بعد ستة أعوام يأتي فيلمه الجديد "الجانب الآخر للأمل" (*)، وكلاهما يتناول المسألة التي صارت أزمة أوروبا الكبرى في الفترة الأخيرة: المهاجرين. دون الإخلال بلمسة كوريسماكي المميزة في إتمام عمله كمنمنمة سينمائية غريبة ومحببة، يأتي الفيلم، مثل سابقه، كحكاية ذات شقين، ترقمه االمغامرات الناظمة لحياة شخص يملك وآخر لا يملك. الأول هو ويكستروم (ساكري كوسمانن)، تاجر ملابس جوّال من هلسنكي، يتحصّل على ثروة صغيرة من جلسة للعب البوكر تؤدي إلى بداية جديدة له كصاحب مطعم، والثاني هو خالد (شيروان حاجي)، مهاجر سوري قدم إلى فنلندا بالصدفة وصار عليه التهرّب من السلطات بعد رفض طلبه اللجوء، بينما يسعى إلى تتبع آثر شقيقته التي فقدها خلال رحلته المحفوفة بالمخاطر.

المشاهد المبكرة من الفيلم تحفّز لدى المتابعين الدائمين لسينما كوريسماكي ألفة مريحة للوجود في أرض كوريسماكية تماماً، مع ذلك العالم الكسول الذي يطبع الشاشة بألوان الباستيل والأضواء الذهبية المتألقة، والدقائق العديدة التي تمرّ قبل أن تُنطق الكلمة الأولى في الفيلم، وتلك التفاصيل الصغيرة التي تحضر في اللقطات الأولى لتقديم الشخصيات. شجرة صبّار كروية كبيرة موضوعة في وعاء على الطاولة التي تفصل بين ويكستروم وزوجته، أو مظهر خالد المغطى وجهه بالسخام بعد خروجه من تحت كومة فحم على ظهر السفينة التي وصل بها إلى فنلندا. عبثية معتادة وحساسية ساخرة، وكما هو الحال في سابق أفلامه، هناك سخاء واضح يبديه كوريسماكي لكل من الكوميديا الجماعية في مشاهد المطعم والطريقة التي تُقدَّم بها العروض الموسيقية (من فرق البارات إلى موسيقيي الشوارع)، يسمح له باللعب أبعد من حدود المشهد ووظيفته. هي إيماءات قياسية لإنسانية أصيلة مرحب بها على الدوام، لكن المشكلة تظهر حين النظر إلى المعالجة السينمائية لشخصية البطل السوري. 

يمر الفيلم بمأزق بنائي وجمالي يتمثل في محاولة ربط قصة خالد المأسوية بحساسية كوريسماكي العتيقة. مواجهات العنف العنصري الذي يتعرض له خالد، تُصوَّر بحسّ كوميدي تهريجي معتدل، بينما مونولوجه الطويل عن فظائع عبور الحدود ومأساة فقدان شقيقته في الطريق، والذي يأتي في لقطة واحدة طويلة، عبارة عن مشهد غير جاذب على الإطلاق، بسبب الثبات التعبيري لخالد ورزانته في فيلم كل ما فيه ينحو تجاه الدعابة والسخرية. بعد وقت قصير من ذلك المشهد، نتابع  تقارير إخبارية عن غارات جوية في سوريا مذاعة على التلفزيون في صالة مركز للاجئين، ما يخلق تأثيراً متنافراً بقدر مجانيته. مثل هذا المشهد سيكون وجوده فعّالاً في فيلم آخر عُرض في البانوراما هو "رجل البريد الطيب" للبلغاري تونيسلاف هورستوف (وهو وثائقي ممتاز عن أزمة اللاجئين وتصاعد خطاب معاداة الأجانب وشيخوخة أوروبا)، لكن حضوره في فيلم لكوريسماكي يثير تساؤلات سلبية، فنية وإنسانية.

غني عن البيان أن كوريسماكي لا يهدف في عمله إلى توخي الواقعية، وأن تقديم نظرة عالمية متفائلة للتراجيديا السورية، يعني تحويل الفيلم إلى فانتازيا غير مقبولة. إن اللطف والدعم غير المشروط الذي يلقاه خالد من ويكستروم وأصدقائه، مثالي وطوباوي، ولا يمكن فهمه إلا في هذا الإطار. أما لقطة الفيلم الختامية فتتويج لفهم كل مُشاهِد للفيلم، بطريقته، فهي حميمية أو مثيرة للقلق، اعتماداً على مدى تفاؤلك. بالنسبة لهذا المُشاهد، فإن خالد لم يتجاوز كونه ورقة بيضاء مثيرة للشفقة (وهذا ليس خطأ حاجي، الذي وفّق أدائه بشكل جيد مع أسلوب كوريسماكي)، نادراً ما سُمح له أن يكون مصدراً للفكاهة بنفس الطريقة التي ظهر عليها نظرائه الفنلنديين، وهو أمر يخفّف من تأثير إنسانية الفيلم وكرمه.

 

في فيلمه السابق "لوهافر"، تركنا كوريسماكي مع ميناء فرنسي، وفي فيلمه الجديد يأخذنا إلى ميناء آخر في فنلندا. "الجانب الآخر للأمل" المُهدى إلى ذكرى صديقه الناقد بيتر فون بوغ، والذي يشهد تعاون المخرج مع عدد من العناصر المألوفة في أعماله السابقة، يتابع المسار الإنساني الرقيق الذي بدأه السينمائي الفنلندي في فيلمه السابق، من خلال حكاية لاجئ سوري يصل إلى الشواطئ الباردة لهيلسنكي ليكون عليه مواجهة ظروف قاسية تحمله إلى مفاجآت غير متوقعة تجعله أكثر إيماناً في البقاء والاستمرار على سطح هذا الكوكب. حكاية دافئة عن مكان بارد تفترق فيه الطرق ويتلاقى فيه البشر والبضائع والأحلام، تحمل بداخلها محبة للحياة وسخرية من مجتمع أووربي لا يرى في ثقافات الشعوب الأخرى سوى إثنيته الغذائية التي تدرّ عليه الأرباح.

الجمالية الغروتسكية التي يكشف عبرها كوريسماكي سخريته من روح أوروبا المتآكلة، تخبر عن مجتمع لا تعترف بيروقراطيته ولا نظامه العدلي بالتراجيديا السورية، مجتمع تتصاعد فيه نعرات وهجمات النازيين الجدد، حيث الثقافات الأخرى تحضر فقط موضوعاً للملابس الإكزوتيكية وموضات الطعام الرائجة (وهو جانب نجح فيه كوريسماكي تماماً بسخرية تنتزع الضحكات العالية)، بينما يُطرد الغرباء إلى خارج النعيم الفنلندي/الأوروبي. ببساطة، أوروبا لم تعد إنسانية، لكن لا يزال ممكناً إيجاد تلك الإنسانية المفقودة في ذئب فنلندي وحيد يحاول تجديد حياته، أو في شابة فنلندية جميلة تنجذب إلى الشاب السوري اللاجئ، أو في ساكني الشوارع من المشرّدين والمعوذين.هذا ما يقوله الفيلم على الأقل.

يتابع "الجانب الآخر للأمل" نموذجين بشريين لكل منهما حياة ترتحل بموازة الآخر، رغم ابتعاد الجغرافيا واختلاف الأحوال. ويكستروم وخالد يتكفل بتدبير لقائهما لطفٌ بالغ من السيناريو، قرب منتصف الفيلم، لكن في واحدمنمشاهد الفيلم المبكرة، يضعهم كوريسماكي في نفس الإطار عند منعطف إحدى الطرق. مصيرهما المشترك سيجلبهما إلى الالتقاء من جديد، كشخصين ينهكهما الشعور بالوحدة، لأسباب مختلفة، ويسعيان لخلق حياة جديدة، بأصدقاء وأحباب. في الأخير، ويكستروم وخالد، جنباً إلى جنب عمال المطعم الآخرين، بما في ذلك أحد الكلاب سيكون مصدراً لنكتة لاذعة؛ سيشكّلون واحداً من مجتمعات "الأوغاد الطيبين"، هؤلاء الذين نلتقيهم عادة في أفلام كوريسماكي. لكن ما يبقى تأثيره فعلاً بعد انتهاء الفيلم، ليست تلك الإنسانية الأوروبية التي يمكن الجدال بشأنها كثيراً، بل التأكيد على بقاء الإنسانية في هذا العالم، وليس أبلغ من التدليل علي ذلك سوى ما يقترحه الفيلم من أن المرء لا يزال باستطاعته الاعتماد على مَن يشبهه، حتى إن كان غريباً شريداً وحيداً، وهذه ببساطة رسالة أكثر راديكالية من أشياء أخرى كثيرة تزعم ذلك.


(*) عُرض ضمن فعاليات النسخة العاشرة من بانوراما الفيلم الأوروبي في القاهرة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها