الإثنين 2017/11/20

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

"مانيفستو" جوليان روزفيلد... الفن مُنقذ ضائع

الإثنين 2017/11/20
"مانيفستو" جوليان روزفيلد... الفن مُنقذ ضائع
المانيفستو أصبح منذ أكثر من قرن من الزمان موضوعاً فنياً قائماً بذاته
increase حجم الخط decrease
ما المانيفستو؟ معرض للنظريات الأدائية المبرمجة عن الحياة والفن؟ محاولة إعطاء شكل منتظم لغضب تدميري؟ تبشير جماعي؟ عملية تسويقية كبيرة؟ كل من هذه الفرضيات السابقة لها أساسها، إذا اعتبرنا أن المانيفستو أصبح منذ أكثر من قرن، موضوعاً فنياً قائماً بذاته، باعتباره عملاً ترتبط وظيفته الجمالية، من حيث اللغة والبلاغة والمرجعية، بما يحتويه من تبشيرات نظرية ومبادئ ثورية وبذور الفوضى الخلّاقة التي يعتزم نشرها.


بهذا المعنى، يمكن استقبال فيلم "مانيفستو"(*) للألماني جوليان روزفيلد، كـ"مانفيستو المانفيستو"، باعتماده على مجموعة من أهم التمثيلات النظرية والسياسية والفنية المكتوبة في الحداثة الغربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بدءاً من بيان الحزب الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنغلز، والبيان التأسيسي للحركة المستقبلية الإيطالية من قبل فيليبو مارينتي، مروراً بمبادئ الدادائية والسوريالية لتريستان تزارا وأندريه بريتون، وصولاً إلى القواعد السينمائية للارس فون ترير وجيم جارموش. بيانات مستعادة وخارجة من سياقها تماماً، تبحث لنفسها عن حياة جديدة في فصول فيلمية مفككة، تحضر فيها الأسترالية كيت بلانشيت بلياقة تمثيلية مذهلة لتضيف النكهة المميزة على الشخصيات الـ13 التي تؤديها، حتى وإن اختُزل الأمر في دقائق معدودة.


هي لعبة مضحكة ومسلية لهواة حفظ البيانات الثورية العظيمة، حيث يدخل المتفرج في تمارين ذهنية متلاحقة لإيجاد الرابط بين الكلمات المنطوقة وما يحدث على الشاشة. مثلاً، بيان الحركة الدادائية يصبح مرثية حارة أثناء دفن أحدهم، بينما تحضر مبادئ مجموعة سينما "دوغما 95" كمادة للسخرية في أحد الصفوف الدراسية. أما البيان التخريبي للحركة المستقبلية فسيرفرف فوق إحدى صالات وول ستريت. هل من رابط بين ما يُقرأ وما يظهر على الشاشة؟ أحياناً نعم، وأحياناً لا. فالمهم هنا بالنسبة للفنان الألماني، هو اللعب مع عقود من تطور التيارات الفنية ومحاولاتها تقديم نفسها كاجتياز جمالي وفني لما سبقها من قواعد راسخة. اللعب مع خلاصة التجارب الغربية (الأميركية والأوروبية تحديداً) لتثوير الفن واستجلاء حقيقته، هو منطلق روزفيلد في استكشافه النيّة الكامنة وراء تعبير الفنان عن ذاته، واستكشافه قوة الشاشة في سرد الحكايات. فعل الخلق الفني هو تجربة غامرة تماماً، تتطلب من الفنانين توريط أنفسهم مادياً وروحياً، بحثاً عن العظَمة والخلود، وفي الفيلم يصبح الفن حلاً لاقتصاد عالمي فاشل، وحتمية لبقاء الإنسان.

 
وُلد "مانيفستو" من رحم تجهيز فني سابق للفنان الألماني، أقيم في مساحة عرض ضخمة، نظراً لتوزيع مادته المصوّرة على 13 شاشة، بدلاً من شاشة واحدة. كلّ مانيفستو يدوم 10 دقائق و30 ثانية، تقرأ خلاله كيت بلانشيت ملخصاً لجُمل مختارة من النصوص التأسيسية المختلفة، وإعادة موضعتها في سياق عام راهن. فقط في النصف الثاني من الفيلم، نصبح أمام فيلم روائي، تتقاطع فيه البورتريهات والشخصيات المختلفة التي تؤديها بلانشيت، والتي، وإن كانت مجزأة وتبدو متنافرة، إلا أنها تعتمد مساراً زمنياً خطياً يبدأ من ماركس حتى فون ترير.


في حوار مع جوليان روزفيلد، يشير إلى أن فكرة التجهيز الفني كانت سابقة على الفيلم، إلا أنه واجه ميلاً من طرف الجهات المموّلِة لمشروعه ناحية النسخة الفيلمية، لكنه اقترح على بلانشيت القيام بالاثنتين معاً، التجهيز والفيلم. العمل التوليفي المتمثل في جمع العديد من المؤلفين والنصوص المذكورة (في تترات الفيلم يصل عددها إلى حوالى الخمسين)، يمكن أن يجعل "مانيفستو" تمريناً فكرياً متثاقفاً: كوكبة من الاقتباسات مرتبة بطريقة متجانسة لإعطاء سلسلة من البورتريهات المركبة التي تغطي أكثر من 150 عاماً من الثورات وتيارات الثقافة المضادة. لكن الأمر لا يتم بهذه الطريقة فحسب.. بل أيضاً، وبسبب التبسيط هذا، يختار روزفيلد اثنين من أكثر وسائل الميديا والتعبير "فنية" في علاقتهما بالحساسية المعاصرة، والمقصود هنا هو الأداء والتوليف: المتحف وشاشة السينما. معاً، يعمل العنصران على خلق صورة شعبية للعمل المفاهيمي التأسيسي النخبوي. والنتيجة؟ يتحوّل المانيفستو الناقد إلى مانيفستو مَعَارِضي، أداة للتسلية.

إذا كان المانيفستو في معناه الأصلي يستهدف توضيح وعرض وإظهار، أفكار ومشاعر وصور تكافح من أجل الحصول على حيزها تحت الشمس والوصول إلى الناس، فإن المفاهيمية الشعبية التي يبدو أن روزفيلد يسعى لتقديمها في فيلمه، تستهدف، قبل كل شيء، الاختلاق وتحويل الانتباه. هذه محطة وصول مستغربة بعض الشيء للفيلم، خصوصاً حين يُنظر إليها في ضوء حديث مصاحب عن قيمة وتأثير تلك الأفكار الرائية المستبصرة التي لا تموت. ولا يمكن هنا الاعتماد كثيراً على تفسيرات المرونة الفنية والتعاطي الحرّ مع الأفكار والاكتفاء باعتبار الفيلم حقل تجارب فنية، إلا باعتباره ترفاً مرهقاً في غير مكانه. ربما يكون أداء كيت بلانشيت المبهر هو أول ضحايا ذلك النهج المرهق من جانب رزفيلد، في تمديد حدود لعبه ضمن إطار ثري لا يستفيد من مكوناته بالصورة المناسبة.


وبهذا المعنى، يصبح "مانيفستو" شبيهاً بفيلم "المربع" لروبن أوستلوند (وهو فيلم يقدّم نقداً قاسياً حول بعض أوهام الفن المعاصر) أكثر من شبهه بأي من النصوص التي يستشهد بها. إنه لا يسعى إلى ثورة فوقية مفترضة تجتاح سابقاتها، بل يشيّد معرَضاً من الفيديوهات التي تُبطل كل سياق زمني وتقيم علاقة مباشرة مع الخطابات التدميرية والساخرة لعالمنا الحالي. لكن الفارق أن فيلم أوستلوند يفعل ذلك بنجاح، يبدو أنه فقد طريقه إلى "مانيفستو".


(*) عُرض الفيلم في ختام "مهرجان بيروت للأفلام الفنّية الوثائقية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها