الجمعة 2017/11/17

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

المئوية البلشفية.. أو كيف تُستهلك الثورة

الجمعة 2017/11/17
المئوية البلشفية.. أو كيف تُستهلك الثورة
من معرض "نجمة حمراء فوق روسيا" في متحف الفن الحديث - لندن
increase حجم الخط decrease
مطلع الأسبوع الماضي، افتتح متحف الفن الحديث "تيت مودرن" في لندن، معرضاً خاصاً بالذكرى المئوية للثورة البلشفية، بعنوان "نجمة حمراء فوق روسيا". نال المعرض حماساً من نقاد الأقسام الفنية في الصحف البريطانية، وإقبالاً أقل من المتوقع من الجمهور. غير أن المعرض لم يكن سوى إعادة تدوير، لكتاب ديفيد كنغ، الذي يحمل الاسم نفسه، ويباع، طوال السنوات الثماني الماضية، في محل الهدايا التذكارية في المتحف نفسه، جنباً إلى جنب مع كتب "طاولة القهوة" الخفيفة والمليئة بالصور. ويبدو أن سوق الموسم الثوري قد وصل لنقطة التشبع. 

ففي شباط/فبراير الماضي، سبقت الأكاديمية الملكية للفنون في لندن، غيرها، في الاحتفاء بالذكري المئوية للثورة، وقبل ثمانية أشهر من موعدها، وهو ما ثبت لاحقاً، أنه خطة تسويقية ناجحة. فالإقبال على معرض الأكاديمية "الفن الروسي 1917- 1932" كان استثنائياً، إلى درجة أن زيارته كانت تتطلب حجز التذاكر قبلها بأسبوعين أو أكثر. وبالرغم من الازدحام الشديد والخانق في قاعات المعرض، والذي كان يتطلب تدخل موظفي الأكاديمية، لتنظيم الحركة داخله، وفك اختناقاتها، فإن زيارة المعرض كانت محبطة إلى حد كبير، فالعدد الهائل من المقتنيات المعروضة، وطريقه توزيعها، لم يكن معنياً بتقديم نماذج متنوعة من مدارس الفن الروسي والسوفياتي، أو حبك سردية ما عن مساراتها، بقدر ما تعمد فرض حالة من التكرار القسري، والملل، الذي يحمل رسالة سياسية فجة وشديدة المباشرة: وهي أن النظام السوفياتي كان سيئاً جداً. 


لم تتأخر المؤسسات الثقافية والفنية الأخرى عن الاستفادة من ذكرى الموسم الثوري. فمتحف التصميم اللندني، بدوره، افتتح معرضاً باسم "تخيل موسكو"، وعرض تصاميم معمارية وصناعية نادرة من فترة ما بعد الثورة، وبرنامجاً من المحاضرات، بعنوان "رؤى للشيوعية"، ونظمت "بي بي سي" سلسلة من حفلات الموسيقى الكلاسيكية تحت عنوان "الثوريون الروس" بالتعاون مع قاعة "باربيكان" اللندنية. ونظم مسرح "أركولا" شرقي لندن، برنامج العام كله، تحت اسم "موسم الثورة"، في سلسلة من مسرحيات تشخيوف، وغوركي وغيرهما. وقدم مركز "ساوث بانك" برنامجاً من الحفلات الموسيقية الكلاسيكية، بعنوان "أصوات الثورة".


وفيما افتتح عرض فيلم "موت ستالين" الكوميدي، وكانت تعرض مسرحية جديدة باسم "ماركس الشاب"، وأخرى عن لينين في المنفى، في مسارح جنوب لندن، نظمت الأكاديمية الملكية، حفلة راقصة باسم "العالم السوفياتي الجديد"، كان تيمة ملابسها التنكرية، أزياء الفلاحين الروس والملابس العسكرية السوفياتية. وأعلنت مكتبة ماركس التذكارية عن أوكازيون الكتاب الماركسي، بتخفيضات مغرية. وفي وسط لندن، قدم المطعم الفرنسي الشهير "براسيريزيديل"، عرض "قائمة وجبة الثورة"، فنال إقبالاً  كبيراً، وحضره البعض مرتدياً تيجان قيصرية من البلاستيك. ومن بين عشرات حفلات الكوكتيل، ذات التيمات البلشفية، كانت سلسلة حفلات تذوق النبيذ التي نظمها "بيت بوشكين"، بعنوان "رشفات قيصرية" هي الأفخم. 

لكن، وبعيداً من المفارقة التي لم تعد صادمة، في الطبيعة الاستهلاكية الركيكة لذكرى الثورة البلشفية، وتوظيفها لملء برامج صناعة الترفيه الثقافية اللاهثة وراء تيمة بعد أخرى، لحشو برامجها، فإن ما يجمع بين احتفاليات المئوية البلشفية، ليس في لندن وحدها، بل وفي روسيا نفسها، هو تقليص ثورتها إلى مناسبة ذات طابع قومي محدود، يرتبط حصراً بروسيا. وحصرها في حدث تاريخي ضئيل، يستدعي المقارنة بين القيصرية والسوفياتية، لا أكثر. أو إعادة عرض لتراث الفنون الروسية الرفيعة، في أفضل الأحوال.

لا يمكن لوم مؤسسات الإنتاج الثقافي على تجاهل المعاني الأشمل، للثورة الطوباوية الأهم في التاريخ الحديث، والتي ساهمت في إطلاق شرارة ثورات التحرر في العالم الثالث، وانهيار الاستعمار في صورته التقليدية، وحسم حربين عالميتين. كما دفعت العالم إلى حافة الرعب النووي، وقفزت به إلى حرب باردة طويلة، من بين آثارها، مئات الحروب الصغيرة والصراعات الأهلية، وملايين الضحايا، وتنافس بين قطبيها لا تحصر نتائجه التي تراوحت بين لجوء الطبقات الحاكمة الغربية إلى "دولة الرفاه" لصد الخطر الأحمر، مروراً بالصعود إلى القمر، ووصولاً إلى تحول بندقية الكلاشينكوف إلى رمز للمقاومة حول العالم.
 
ففي مقابل الظرف التاريخي، حين حلت الذكرى الخمسون للثورة البلشفية، العام 1967، وكان الخطر الأحمر وإلهام ثورة البروليتاريا، واقفين على بُعد أميال قليلة من السواحل الأميركية، وتحوم أشباحهما بين مئات الجماعات المسلحة الفوضوية في العواصم الأوروبية الغربية وأحزابها الشيوعية الرسمية، فاليوم، تبدو فكرة الثورة في عمومها، وقد فقدت بريقها حتى للماركسيين الجدد انفسهم. وتبدو نهاية التاريخ وقد حُسمت بالنسبة إلى كثيرين، بانتصار الديموقراطية الرأسمالية. فيما يشاهد البعض الآخر، في حسرة، عودة لصعود النزعات القومية والعنصرية، ملقين باللوم على يسارهم الإصلاحي الذي تخلى عن راديكاليته منذ زمن بعيد.

هكذا، تبدو ركاكة احتفاليات المئوية البلشفية، وفاعليات موسمها الاستهلاكي، فقيرة القيمة، كانعكاس لصورة الحاضر، لا الماضي، في عالم لا يبدو مفتقداً للإلهام فحسب، بل إنه توقف عن الحسرة والندم على انهيار طوباوية أحلام الماضي وأيديولوجياته. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها