الأربعاء 2017/11/15

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

"بويس"... استدعاء ماضٍ منبوذ

الأربعاء 2017/11/15
"بويس"... استدعاء ماضٍ منبوذ
البويسية كطريقة للتفكير الحرّ ما زالت حيّة
increase حجم الخط decrease
واحد من أجمل المَشاهد في فيلم "بويس"، ذاك الذي يظهر فيه الفنان الألماني جوزيف بويس، وقد غطّى نفسه بالسمن الصناعي، فأصبح زلقاً وناعماً ولامعاً للغاية، قبل أن يلقي ببعضه على الحائط أو يهرسه بركبته. اشتهاء فائض، وهراء مدهن، وتذكير بإمكانية تطويع العالم. وقبل ذلك كله، يمتلك المشهد تأثيراً تحررياً، يدفع به بويس إلى الواجهة من خلال التصرف بشكل معاكس لما علق بصورته الفنية على مدى عقود، من تجميد وحصر في قالب معين جعله أشبه بالقطع المتحفية المؤبدة في صناديقها، بينما لم يتوقف يوماً عن التسرّب في مساحات ومناطق فنية جديدة إيماناً منه بوجود الفن في كل شيء، وقدرة كل إنسان على أن يكون فناناً.

شهرة بويس ابتلعته لفترة طويلة، وتورّطه في تبني آراء متطرفة في السياسة كما في الفن، جعله محط تبجيل بقدر الاحتقار، كما يليق بشخصية أسطورية، لكنه الآن يعاد اكتشافه في فيلم وثائقي جديد للمخرج أندرياس فيل.


من دون تعليق صوتي أو استعانة بصور حديثة، يخرج الفيلم معتمداً بشكل أساسي على عدد لا يحصى من الصور والتسجيلات التلفزيونية التي جعلت من بويس فنان الميديا الأول، جنباً إلى جنب مع آندي وارهول في أواخرالستينيات. 400 ساعة من اللقطات المصورة و300 ساعة من المواد السمعية وأكثر من 20 ألف صورة وكولاج بصري. إنها رحلة إلى زمن آخر وداخل مجتمع آخر، لكنها كافية لإحداث صدمة لونية عند مغادرة قاعة السينما. عميقاً في خشونة الأبيض والأسود وصخب الألوان القديمة لعالم ترن فيه الهواتف باستمرار، ويغطّي دخان السجائر شاشة التلفزيون أو يصعد فوق طاولة جامعية أثناء مناظرة فنية محتدمة؛ ينزل الفيلم إلى ذلك الزمن الذي يبدو بعيداً الآن، زمن كان من الصعب للغاية على المرء أن يصبح فنانًا مطلوب منه شرح عمله للجمهور وللمتخصصين، ومن السهل أيضاً حين يحتمي في تصفيقات وصيحات تأتيه من جمهور متحمس كما يحدث حالياً على منصات السوشيال ميديا.


في أولى لقطات الفيلم، يظهر بويس ليواجه الكاميرا مازحاً بأن الأمر يشبه ما يحدث مع نجوم هوليوود، ثم يتحدث عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مواجهة الفنان، أي فنان، للجمهور. "أن يطرح الفنان سؤالاً"، هو الأساس الذي يجب أن يعتنقه الفنان في عمله وعلاقته بالجمهور كما يرى بويس. وانطلاقًا من ذلك الاعتقاد، يمكن العثور على الفن في أشكال مختلفة وغير مطروقة وتبدو غريبة لجمهور القواعد التقليدية. في أحد المشاهد، يظهر بويس، في قاعة كبيرة في مدرسة الفن فيدوسلدورف، لتكون عليه مواجهة مجموعة من كبار الشخصيات في المدينة والدولة، شخصيات وقورة ببزات داكنة وعقول صارمة. يصعد الفنان إلى المسرح، ويمسك بالميكروفون، ثم تخرج منه "أوه" أشبه بحشرجة ممتدة. يبدو في البداية كإزعاج غير مقصود، سيستمر، وكأن ذلك الواقف على المسرح ليس سوى ظبي ضخم يعاني غثياناً حاداً. لا أحد يضحك. إنها إهانة من أجود الأنواع. سريعاً، سيطاح ببويس من وظيفته كأستاذ جامعي، وسيكون عليه البحث عن ملجأ في الخارج.

هذا غيض من فيض الفنان في طرق إثارة الجمهور وحثّ نفسه كذلك على التعبير الفني. الانطباع الذي ينبني داخل المتفرج عن بويس يكشف عن شخصية تمارس سخرية ذاتية تتسبب في الارتباك أينما حلّت. الفنان الذي يريد تثوير العالم، هو أمر يعرفه الجميع، لكن ذلك الذي يريد "ثورة من دون ضحك" غير وارد بالمرة، وهو ما لم يتحقق في حالة بويس الذي سعى الى الاستفزاز، فكان عليه أن يواجه سخرية متعددة الطبقات. في بلده، ألمانيا، كانوا يعتبرون أعماله "القمامة الأغلى ثمناً على الإطلاق"، لكن لم يترك الضحك والسخرية أي أثر في استقبال عمل بويس. فاليوم، تجد أعماله - من لفافات اللباد ومعارض القمامة وتجهيزات الشحوم-مكاناً لها في العديد من قاعات المتاحف، لكن عادة ما يعلوها الغبار، بغض النظر عما يحيطها من كلمات احتفائية. لا يمكن الحفاظ على الشعور الآني أو صيانته، والسخرية الذاتية ليست هي الفضيلة الأعلى تقديراً في مجتمع بويس.



بعد ذلك سيكون من العبث تجاوز، أو قمع، الحمّى المثالية التي قادت هذا الفنان في مشواره، لكن حقيقة اهتمام المخرج بأفكار جوزيف بويس أكثر من اهتمامه بقصة حياته نفسها، توقعه في مطبات فنية أثناء تسليط الضوء على الخلفيات والسياقات السياسية والجمالية للفترة التي عاش فيها بويس، ألمانيا الغربية في فترة ما بعد الحرب. لماذا أصبح فناناً؟ مع مَن درس؟ كيف توصل إلى مفهومه عن التفنين الاجتماعي أو الفن التشاركي؟ ما الدور الذي لعبته زوجته في حياته؟ كل هذا لا يلتفت إليه الفيلم بديلاً عن حشو نفسه بمقابلات لا تنتهي، وموائد نقاش مستديرة، ومشاهد لبويس كأستاذ جامعي مسلحاً بالطباشير والسبورة وتخطيطاته من أجل تصميم مجتمع أفضل. ما الذي يريده؟ إعادة اختراع النظام الاقتصادي، إلغاء الدولة، تحرير الإنسان، وبالطبع جعل الفن محركاً للتغيير. كيف يمكن أن ينجح هذا؟ ما زالت الإجابة غامضة للغاية، بقدر غموض فكرة الفن التشاركي، والتي يمنحها الفيلم دوراً ثانوياً. وهكذا، يتحدث بويس عن الأجواء والأمزجة والمشاعر، وكيف يواجه فنانٌ الظروف المحيطة به، باعتقاد راسخ لدى الفيلم بأن تلك الظروف لديها القدرة على تغيير الفنان كلية.

جانب سلبي آخر يظهر في اهتمام اندرياس فيل، بإرث جوزيف بويس، وبجعله مغرياً قدر الإمكان، مبتعداً عن طرح الأسئلة، مخالفاً وصية بويس في بداية فيلمه. لذلك يلمّح الفيلم فقط إلى أن بويس اخترع أموراً كثيرة بشأن تاريخه السابق كجندي في صفوف الجيش النازي. هناك قدر من الاستخفاف في تعامل الفيلم مع تلك المنطقة من شخصية بويس، فبالتأكيد ستكون مهمة معرفة أي أفكار تحمّس لها الفنان الإشكالي الثوري حول نقاء الشعوب والتفوق الألماني، مع الأخذ في الاعتبار تصريحه حول هتلر الذي رأي فيه "فناناً وفاعلاً عظيماً، لكنه استخدم قدرته الإبداعية سلباً". على الأقل، كان لا بدّ من تسليط الضوء على الدافع القومي وراء معاداة بويس لمؤسسات الدولة وللديموقراطية المباشرة، بدلاً من تضمينها داخل خطاب فني مثالي في المطلق يسعى للتحرّر من كل قيد.

بعد ثلاثين عاماً على وفاته، ما زال جوزيف بويس حاضراً في النقاشات الفنية برؤاه السابقة لعصرها ومفاهيمه عن طبيعة الفن وممارساته الواسعة في مركز الخطاب المتعلق بعلاقة الفن بالقضايا الاجتماعية البارزة، كما يقول النص المصاحب للفيلم. مع ذلك، في النهاية، تبدو مدهشة ومثيرة للتأمل، تلك السهولة التي ينزلق إليها الفنانون، أصحاب الأفكار التقدمية، فيستدعون النوستالجيا من أزمنة سابقة، ويتبنون أفكاراً مطلقة في غير زمانها. وذلك بشكل مشابه لما فعله أندرياس فيل في فيلمه، إذ سيطرت روح الستينيات والسبعينيات على فعاليات معرض دوكومنتا، وبينالي فينيسا لهذا العام: الإحساس بالمجتمع، الشجاعة من أجل القتال، الجرأة الفنية، وكل ما هو مفقود في الوقت الحاضر جرى استدعاؤه وأعيد تدويره بأثر رجعي في أعمال فنية مختلفة.

لكن، هل صراع/كفاح ذلك اليوم البعيد في الماضي، هو نفسه صراع/كفاح اليوم؟ أليس من دواعي سعادتنا (كبشر بشكل عام) أن الدولة التي سعى بويس إلى التخلّص منها تبلى بلاء حسناً في إيقاف انحدارها إلى أقصى اليمين، رغم شبح دونالد ترامب وتآكل الليبرالية الجديدة في السماء الأوروبية؟ وأليست الديموقراطية المباشرة، رغم كل عيوبها، هي الحائط الأخير لمواجهة انتصار الشعبوية في كل مكان؟ هذه بعض التساؤلات التي يثيرها ظهور هذا الفيلم في الوقت الحالي، والذي يشهد نكوصاً عالمياً، وأوروبياً بالتحديد، في ما يتعلق بمسائل الحكم والتمثيل الديموقراطي والحفاظ على قيم المواطنة. وهي تساؤلات لا تنفصل عن أخرى فنية بحتة تتعلّق بتلك الهرولة التي تبدو ميتافيزيقية الأسباب، نحو استدعاء الماضي والتفنّن في الحنين إليه، فقط لأن الحاضر أصبح مشوّشاً ومعقداً أكثر من اللازم.

البويسية كطريقة للتفكير الحرّ ما زالت حيّة وستظل موضع ترحيب. لكن إعادة تقديم المثالية المتطرفة لبويس في فيلم وثائقي، يلزمها القليل من الدادائية، على الأقل لتتوافق مع ما حاول بويس فعله ودعا من أجله طوال حياته.

(*) يعرض الفيلم في سينما متروبوليس-أمبير-صوفيل، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر ضمن فعاليات "مهرجان بيروت للأفلام الفنّية الوثائقية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها