الثلاثاء 2017/10/31

آخر تحديث: 09:24 (بيروت)

هل يمكن محو الإمبريالية من تاريخ لبنان؟

الثلاثاء 2017/10/31
هل يمكن محو الإمبريالية من تاريخ لبنان؟
التركيب لكريم صقر
increase حجم الخط decrease
منذ مدة، نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية مقالاً بعنوان: "لا يمكن محو الإمبريالية من تاريخ لبنان، مهما حاول البعض ذلك". السبب كان منع الرسام البريطاني، توم يونغ من عرض بعض لوحاته في مبنى دار الأيتام الإسلامية (زقاق البلاط)، وقد بررت المؤسسة المنع بعدم رغبتها في التورط في مواضيع سياسية تثير الخلافات بين اللبنانيين. 

كان يفترض أن يكون موضوع معرض يونغ، هو المبنى الذي تتخذه المؤسسة مركزاً لإدارتها، والذي يعود بناؤه إلى عشرينات القرن الماضي، وعاش فيه مندوبو بريطانيا منذ العام 1941 إلى 1982. ما غاب عن الفنان المفتون بمباني بيروت القديمة، والتي كانت موضوعاً لعدد كبير من لوحاته، أن لأحد أولئك المندوبين، وهو الجنرال إدوارد سبيرز، يداً أساسية في الإستقلال اللبناني، وقد اكتشف ذلك خلال بحثه حول المبنى، ما غير مسار عمله كليًاً.

النتيجة كان من المفترض أن تكون معرضاً يضم لوحات تظهر المنزل بمواضيع مختلفة، بالإضافة إلى أخرى تظهر شخصيات زارت المكان قبيل الإستقلال، ومنهم شارل ديغول، جورج كاترو، بشارة الخوري، كميل شمعون، رياض الصلح، وطبعاً الجنرال الإنكليزي إدوارد سبيرز، الذي عمل وسيطاً بين بريطانيا وفرنسا، وقد سكن المنزل منذ العام 1941 حتى 1943.


ما تغير بالنسبة إلى يونغ بعد حصوله على تلك المعلومة، أن إحساسه بنوستالجيا البيوت القديمة لم يعد وحده محركاً لعمله الفني، بل رغبة بالمعرفة أيضاً وبنشر تلك المعرفة الطارئة عليه والتي بإمكانها أن تبدل وقتياً من صورة البريطاني من مستعمر إلى مقاوم للإستعمار، وهي مسألة شخصية طبعاً، طالما أن يونغ يحمل الجنسية البريطانية ويستقر في لبنان منذ سنوات. 


بعد حرمانه من عرض اللوحات التي تظهر السياسيين المشاركين في الإستقلال، بدأ يبجث في حيثيات تلك الحقبة. تحول من رسام إلى مؤرخ، وعرض نتائج بحثه في محاضرة قدمها في متحف الجامعة الأميركية منذ أيام، وتضمنت سرداً لحكاية الإستقلال من وجهة نظر جديدة، معتمداً بشكل أساسي على كتاب سبيرز حول مهمته اللبنانية Fulfillment of a Mission الذي لم يترجم إلى العربية، بالإضافة إلى مجموعة صور ورسائل متبادلة بين سبيرز، تشرشل، ودبلوماسيين آخرين، مؤكداً أن محاضرته هذه لا يمكن أن تكون تاريخاً كاملاً، وأن النظرة إلى سبيرز يمكن أن تتغير في أي وقت. 

رغم تراجع نفوذ الإمبراطورية البريطانية في ذلك الزمن، كان لا يزال في إمكان رجل بريطاني واحد أن يغير مصير دولة بأكملها. استفاد سبيرز من تراجع هيبة فرنسا المحتلة من قبل الألمان، وقد أصبحت ضعيفة في المنطقة في بعض المراحل، وبشكل خاص عقب انتقال السلطة من حكومة فيشي إلى حكومة فرنسا الحرة، بعد دخول جيوش الحلفاء إلى لبنان وسوريا في العام 1941. كان الإنكليز يومها الأقوى، إلا أن قراراً كان قد اتخذ من تشرشل يمنع استغلال الأوضاع الإستثنائية التي تمر بها حليفته فرنسا، حرصاً على التحالف المبرم بين الطرفين.

طبعاً من المبالغ القول ان الإستقلال هو صنيعة الرجل الإنكليزي وحده، رغم أن كلاماً كهذا كان قد قيل على لسان منتقدي الإستقلال اللبناني من القوميين العرب في ذلك الوقت. فقرار إنهاء الإحتلال الفرنسي، كان مسألة وقت لا أكثر، وقد كان متفقاً عليه بين القوى الجديدة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية أي الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، لكن الخوف كان من زعزعة الإستقرار في المنطقة التي يمكن أن تشهد هجوماً ألمانياً في أي لحظة.

إلا أن احتمال حدوث هجوم ألماني لم يكن وارداً بالنسبة لسبيرز (يراه ادعاءً مضحكاً حسب ما ينقل المندوب الأميركي جورج وادزورث عنه في رسالة سُرّبت في وقت لاحق)، الذي كان يطالب قبل الإستقلال بتحديد موعد لانتخابات نيابية تلغي التعيينات، وانتخاب رئيس جديد يحل مكان ألفرد نقاش. وقد كان لدى سبيرز نظرية خاصة تواجه حجج زعزعة الإستقرار، فقد كتب في العام 1941: "كيف يمكن أن نحافظ على حسن نية الشعوب؟ يبدو لي أن أبسط وأوضح طريقة لذلك، هي وعدهم بالاستقلال بطريقة مقنعة، حتى ينسوا عدد المرات التي وعدوا بها في السابق بالإستقلال الذي دائماً ما يتم إيقافه عنهم...".


سببت تدخلات سبيرز الكثيرة في لبنان، وآخرها كان تهديد جورج كاترو، بتدخل الجيش البريطاني لتحرير الزعماء اللبنانيين من سجن راشيا في حال لم يقم الفرنسيون بذلك، إرهاقاً للمفوض الفرنسي، وقد وصف المندوب الأميركي جورج وادزورث (في الرسالة نفسها) جورج كاترو بالحساس جداً من أي خطوة تؤثر على هيبة موقعه، وسط تراجع شعبية الفرنسيين بشكل كبير في لبنان، بسبب عدم الوفاء بوعودهم بالإستقلال. وقد طلب كاترو في إحدى الرسائل من ديغول، السماح له بإصدار القرارات من دون الرجوع نهائياً لسبيرز، خاصة أن الأخير كان متوجساً من خيانة الفرنسيين له في أي لحظة، وغالباً أن ذلك التوجس شكل نواة الأزمة معهم.

لكن سبيرز، صديق تشرشل منذ الحرب العالمية الأولى، ومرافق ديغول ووسيطه مع الحكومة البريطانية منذ ما قبل إعلانه قيام فرنسا الحرة، لم يكن شخصاً عادياً، يمكن تخطيه بسهولة، وقد لعبت علاقاته المتينة تلك دوراً في تثبيت موقع. فرغم كل النقد الموجه إليه، مضى في تدخلاته، وقد دعم رياض الصلح، الشخصية اللبنانية المتهمة بالتعامل مع الألمان خلال فترة سيطرة حكومة فيشي، والتي عملت ضد المصالح البريطانية في فلسطين والعراق، كما أنه حرض الخوري والصلح على الإحتجاج الدائم، وعلى عدم المشاركة في الإحتفالات الفرنسية المهمة، بسبب سياسات فرنسا في بلادهما.

تصف زوجة سبيرز منزلهم، أنه كان مثل محطة القطار لكثرة الزوار من الشخصيات اللبنانية المطالبة بإطلاق سراح رجال الإستقلال اللبنانيين من قلعة راشيا قبيل الإستقلال، ومنهم المفتي والبطريرك وزلفا شمعون ... وقد نامت لورا الخوري زوجة بشارة الخوري، في منزل سبيرز عندما قُبض على زوجها، ويقال إن العسكري الفرنسي في يوم الإلقاء على الخوري، قد شتم ابنها الأكبر، واصفاً إياه بابن الرجل الإنكليزي. 
انبهر يونغ بتلك الشخصية التي أظهرت كثيراً من العاطفة تجاه سكان لبنان، بخلاف ما توحي الأجواء الإمبريالية التي كان يعيش ضمنها الضباط الإنكليز في تلك المرحلة، إلا أن يونغ يؤكد أنها عاطفة "إستثنائية" طالما أن الأخير قد أظهر نقيضها بوجه الأفارقة خلال عمله في إدارة منجم للذهب في أفريقيا. وأعتقد أن من العوامل المعززة لتلك العاطفة، نظرته إلى اللبنانيين كشعب ضعيف يحتاج للحماية والدعم، ويمكن إلتماس هذه النظرة في وصف زوجته الأولى، الروائية الأميركية ماري ماي بوردن، لبيروت كمدينة "لينة كفاكهة ناضجة" وذات ألوان ناعمة وزهرية، تختلف كلياً عن دمشق "القديمة، الفخورة، والعنيفة". فاللبنانيون ظهروا غالباً لسبيرز ولزوجته كأنهم محاصرون بين نيران جيرانهم المعارضين من دون هوادة لاستقلالهم، ونيران الفرنسيين الذين لا يتوقفون عن استغلالهم، وكان قد تكلم في مناسبات عديدة عن إستغلال الفرنسيين لشعب يرونه من عرق أقل مرتبة من عرقهم، كما أنه كتب بعد مغادرته لبنان، أن مهمته لم تنجح في الشرق سوى عندما رأى أن الفرنسيين قد تخلوا عن نظرتهم للبنانيين كعبيد أقل قيمة منهم.

يقول توم يونغ إن سبيرز نظر إلى نفسه كخليفة لورنس العرب، وهي "نظرة غرور" وصورة معظمة عن نفسه، قد استغلها اللبنانيون واستعملوها وفق الكاتب ماكس إغريمونت، كسلاح بمواجهة الفرنسيين، وقد أدت لاحقاً إلى إبعاده نهائياً عن السياسة.
وكتب داف كوبر، سفير بريطانيا إلى فرنسا الحرة خلال تلك الفترة، في رسالة إلى تشرشل عقب زيارة زوجة سبيرز له، أن الأخير يظن أن مهمته في الشرق تتمحور حول الحفاظ على حقوق السكان الأصليين، بمواجهة القوى المهيمنة. كما أن تشرشل قد كتب شخصياً لسبيرز في وقت سابق، أن علينا عدم تشجيع السكان على رمي الحجارة على منازل الفرنسيين، بما أننا نمتلك منازل مشتركة معهم...
في النهاية واحتراماً لصداقتهما القديمة، سمح تشرشل لسبيرز أن يظهر أمام الرأي العام أنه قد استقال من منصبه ولم تتم إقالته. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها