الثلاثاء 2017/10/31

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

"حكاية تالا":إسرائيل مسكوتاً عنها.. تخلخل بنيتها الدراميّة

الثلاثاء 2017/10/31
"حكاية تالا":إسرائيل مسكوتاً عنها.. تخلخل بنيتها الدراميّة
تهيمن تالا وحب الكاتب هنري لها على الرواية
increase حجم الخط decrease

"إنّها حكاية لاجئة سورية، لكني عدّلتها كي تصبح قصة لاجئة فلسطينيّة". ليس سهلاً الانتقال من سوريا الوطن الممزق بصراعاته الداخليّة إلى فلسطين بصراعاتها المتشابكة التي تقف إسرائيل في القلب منها. الأرجح أنّها نقلة ثقيلة الوطأة، بل خلخلت البينة الدرامية في رواية "حكاية تالا" التي كتبها الروائي الكندي- الفلسطيني شاكر خزعل، وصدرت عن مكتبة انطوان.

وهناك كلام عن جرأة خزعل في صنع رواية عن شخصية "سلبية" فلسطينيّة. ولكن، تبدو "حكاية تالا" أقل جرأة، إذا قورنت بشخصيات سلبيّة في الأدب الروائي الفلسطيني، كتلك التي نسجت عليها رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني و"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل" لإميل حبيبي.

وفي لقاء بثته "إذاعة مونت كارلو الدولية" في أواخر تشرين أول 2017، تحدّث خزعل عن تعديل الشخصية الرئيسيّة في "حكاية تالا" وفق ما ورد أعلاه. وبيّن أنه استقى روايته من حكاية لاجئة سوريّة خرجت من بلادها بعد اندلاع الحرب فيها، فقاست أهوالاً واستلابات رسمت الخطوط العامة للرواية، بما فيها اضطرارها إلى بيع جسدها. وتحكي الرواية قصة لقائها مع كاتب أميركي كان يعاني فشلاً غير مألوف له، فيلاقيها عبر عصابة تحترف الدعارة والاتجار بالبشر. وتروي تالا حكاية اغترابها واستلابها، مع ما يرافق ذلك من مآسٍ باتت معروفة في ثنايا مأساة المهاجرين الذين اندفعوا من الشرق الأوسط إلى أوروبا، بل العالم الغربي بأسره. ويقع الكاتب أسيراً لحب تالا، ويخرجها من هوة الدعارة التي تردّت فيها، لكن هناك ثنيات كثيرة اخرى في مسار تلك الرواية التي تخدمها صنعة التشويق.


هناك خلل في بنية الرواية، يصعب إغفاله. وإذ تهيمن تالا وحب الكاتب هنري لها على الرواية، فإن الحدث المركزي في الرواية يتشابك كليّاً مع حب لا يلين تحمله تالا لحبيبها وزوجها بلال. في القلب من التراكم الدرامي للرواية، هناك صراع يخوضه هنري حتى النهاية، مع حب تالا لبلال. ووفق بنية الرواية، يندلع ذلك الحب من حريق يطاول مبنى ضربته طائرات حربيّة في 2006. ويكاد الحريق يلتهم تالا واختها، لولا ظهور بلال الذي ينقذهما. ويحوّل ذلك الحدث بلال من صبي متولّه بتالا التي تراه ضعيفاً لا يميل قلبها إليه، إلى بطل مذهل يستولي على قلبها كلياً. وتسير حوادث الرواية بالتشابك مع الخيط الأساسي الذي يرسمه حب تالا لبلال الذي يبقى حاضراً حتى الكلمات الأخيرة في الرواية. وتترادف مركزية ذلك الحدث الانقاذي مع كون تالا وبلال كلاهما من مخيم للاجئين الفلسطينيين في بيروت.

ويصمت خزعل تماماً عن إسرائيل التي تقف في قلب تلك المسارات الأساسيّة في البنية الدراميّة للرواية. في الرواية، لا هويّة للطائرات التي تضرب المخيم الفلسطيني في عدوان 2006، يكتفي الكاتب بأنها طائرات حربيّة. ويزيد في دوي الصمت عن إسرائيل، أن الشخصيتين الرئيسيّتين صنعَتا المسارات الأساسيّة في وجودهما وحياتهما، عبر تحويلهما الشعب الفلسطيني إلى لاجئين.

وتوضيحاً، منذ بداية النقد الأدبي في القرن الثامن عشر، هناك سؤال أساسي عن العلاقة بين الشخصيات الروائيّة وبين الواقع الذي تُرسَم على خلفيته. في النقد، هناك سؤال دائم عن مدى تعبير (بالمعنى الواسع لكلمة عبارة) الشخصيات الروائيّة عن المكان والزمان والسياق الاجتماعي الذي تقول الرواية أن شخصياتها تأتي منه. ليس من إجابة مباشرة وسهلة وموحدة عن ذلك السؤال، لكنه يظل أساسيّاً في النقد الأدبي للرواية. وفي "حكاية تالا" تأتي الشخصيات من قلب المأساة الفلسطينيّة، وفي المخيمات التي ظهرت مع وجود إسرائيل؛ وكذلك يتشكّل الحدث الرئيسي للبنية الدرامية للرواية (حب تالا وبلال)، من القصف الإسرائيلي للمخيم. في ذلك المعنى، يصبح الصمت عن إسرائيل نموذجاً عن المسكوت عنه، وفق تعبير المفكر جورجيو أغامبين. في كون إسرائيل مسكوتاً عنها، حدثت خلخلة أساسيّة في خيوط الربط بين شخصيات "حكاية تالا" والواقع الذي تحكي عنه. ومن الممكن الاستطراد في تفرّعات كثيرة عن أثر ذلك الصمت في ما تنطق به الرواية عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وعلاقتهم المضطربة مع السلطة، ومع ظروف معيشيّة كالحصول على العمل وغيرها. وربما لفت البعض أيضاً أنّ السلطة اللبنانيّة و"وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا)، تسمّى صراحة في الرواية بوصفها مصدراً لمشاكل كثيرة في عيش اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان. ولعل ذلك أكسب شخصيات الرواية علاقات و"تعبيرات" (مجدداً، بمعنى واسع لكلمة عبارة)، عن الواقع الذي تقول الرواية أنها تحكي عنه. ولعله مفصل صغير وكثيف يجدر تأمله، خصوصاً في ظل السكوت "المدوي" (في عين النقد) عن إسرائيل.

جرأة؟ ربما ولكن...

  

في مقابلته الآنفة الذكر مع "مونت كارلو"، تحدث خزعل أيضاً عن منحى الجرأة في تناوله شخصية فلسطينيّة سلبيّة، مشيراً إلى انتقادات جاءته خصوصاً من الـ"سوشال ميديا" التي يتمتع فيها بشعبيّة واسعة. وفي الأدب الفلسطيني، هناك روايات كانت جريئة تماماً في اختيارها شخصية سلبيّة لتكون محوراً لها، لكنها نجحت تماماً في التكامل بين تلك الشخصيّات السلبيّة وبنيتها الدرامية. في رواية الكاتب إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، كانت الشخصية الرئيسيّة هي مخبر فلسطيني يعمل لمصلحة إسرائيل. ويلعب ضابط المخابرات الاسرائيلي على حبه لفتاة اسمها "يعاد"، ليسخّره كليّاً ضد شعبه. والأرجح أن لا رواية كتبها فلسطيني أو عربي عن المأساة الفلسطينية، وصلت إلى جرأة غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا". إذ يعود زوجان لاجئان فلسطينيّان إلى حيفا زائرين، ليكتشفا أن ابنهما الذي تركاه خلفهما عند هجرتهما في نكبة 1948، لا يعترف بهما. إذ يتمسك الابن بأنه أصبح الشاب دوف الإسرائيلي المستعد لأن يكون جزءاً من جيشها، وينكر كليّاً كل علاقة له مع الشعب الفلسطيني، لأن الهوية لا تصنعها البيولوجيا وحدها، بل الانتماء إليها أساساً. كانت جرأة هائلة في العام 1969، في أحد ذرى الصراع العربي- الاسرائيلي المباشر والثورة الفلسطينية المسلحة، رسم كنفاني شخصية فلسطيني يخرج من فلسطينيّته كليّاً لينحاز إلى الهوية التي صنعها العيش اليومي والانتماء الفعلي. وعلى رغم أنّ الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا رسم شخصية فلسطينية سلبية في روايته "الصدمة"، إلا أنّ "جرأته" كانت أقل كثيراً من المدى الذي وصل إليه غسان كنفاني الذي اغتالته إسرائيل في بيروت. واستطراداً، وضع كنفاني كتاباً عن الأدب الصهيوني، لفت فيه إلى أنّ الصهيونيّة خاضت على جبهة الأدب حرباً ضد العرب والفلسطينيين، لا تقل ضراوة عن حروبها وعدواناتها العسكريّة. ولفت كنفاني إلى الدور المحوري الذي يؤديه الأدب في رسم الخيال العام للناس عن عيشهم ومجتمعاتهم وتاريخهم.

وتعبر تلك النماذج عن مدى التمرّس الروائي اللازم لخوض تجربة تأليف رواية عن شخصية سلبية في وضعية معقدة كتلك التي ترين على الصراع العربي الاسرائيلي في فلسطين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها