الثلاثاء 2017/10/24

آخر تحديث: 11:00 (بيروت)

عبد الفتاح كيليطو... هل يقرأ فعلاً كل شيء؟

الثلاثاء 2017/10/24
increase حجم الخط decrease
تحدُث داخل المكتبات أشياء عجيبة وسافرة أحياناً، كأن تنتاب مكتبياً ثملاً رغبة دفينة جوف الليل في إحراق الخشب، أو تتمدد سائحة بالمايوه على طاولة القراءة العامة في عز الخريف، أو يتبول كلب سيدة أنيقة على جناح الشِّعر رغم سيلانات فيرجيل. ممنوع دخول الحيوانات. لم نكتبها على الباب، لكن دواب كثيرة أهرقت من محلولها فوق المداد. ماذا يحدث لمّا يختلط المداد بالبول؟ ليس المداد، مهما يكن إلهياً في المعابد أو شيطانياً مسكوباً في الحانات، أكثر من سائل في مثانة المدونين المهزومين. 

بين العامين 2011 و2013، اشتغلتُ في مكتبة دار المأمون، ضمن إقامة دولية للفنون والترجمة في ضاحية مراكش، على الطريقة المؤدية إلى جبل أوكايمدن. رفقة زميلي خ.أ.ب.غ، خلال صيف الجنوب الحارق، كنا نحمل الكراتين ونرقن الأرقام ونحصي العناوين ونصعد بها السلالم اللولبية نحو قبة أبي العلاء. كثيراً ما جلسنا للراحة في الحديقة الخلفية للمكتبة، وكثيراً ما كنا نتجادل بخصوص مشاكلنا مع تصنيف ديوي العُشري، وتناوبنا على تقديم حصّة "سينما الخميس"، وخُضنا مراراً في خطورة المزاح مع مكتبيّين منفيّين خارج المدينة.

كان لنا، من بين نمائم الاستراحة، حديث ودعابة في أمر عبد الفتاح كيليطو (الرباط، 1945)، الناقد المغربي اللطيف، الذي ينقل الأخبار والنوادر في كتبه لاستثارتنا وادهاشنا، على طريقة طفل يضرب الأرض بحذائه الضوئي لينتبه إليه لابسو النِّعال. يُحيل مسمّاه، نعته الافتتاحي، أي اسمه الأول، على الفتح، على الأبواب والأقاليد. عبد الفتاح، تليها كنية مراوغة وغريبة بل ومثيرة للضحك، قد تذكرنا بسلسلة من أسماء عائلات مورسكية مثل تكيطو وكولياط وتويرتو وكراكشو وامبيركو وغيرها. كيليطو، عندما أسمعها وأردّدها أحيط أحشائي بيديّ وأقهقه. "ولا تنابزوا بالألقاب". يمكن أن نلهو مع كنيته فنقرأها تفكيكا بالفرنسية: Qui lit tôt، أي "الذي يقرأ باكراً"؛ ويمكننا إبدال الطاء تاءً لو نحن ترجمنا اسمه من الفرنسية كيليتو Qui lit tout، بمعنى "الذي يقرأ كل شيء". يقول صاحبنا في حوار مع الكاتب المغربي محمد لفتح: "صدقني أنه لولا وجه اللعب الذي تتخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصورة والذاكرة...". فإلى أي مدى يلعب كيليطو معنا/بنا؟ وباتجاه أي حقيقة يدفع النص لتضليلنا عن الصّواب؟

فقه الحكاية
يبلور عبد الفتاح كيليطو فقهاً للحكاية، ويجعل منه علمه الشّرعي لمجاراة الحديثين والمعاصرين من الأدباء. وكما المحدثين القدامى، قد يُطلي علينا حيلة العنعنة الملتبسة ثم يستنجد بقاعدة: لا ضرر ولا ضرار. الظل والضلال وقيلولة المحارب بعد الظهيرة. ظال مشالة وطاء تقلب تاءً. تلك مفاتيح للولوج إلى الخرافة التي يبتدعها صاحبنا. وإذا كان كيليطو طفلاً لا يشيخ، وفقيهاً دائم الرجوع إلى صباه، يستمتع ويتعذب مع الأدب ويقرأ كل شيء باكراً، مثلما قرأ الترجمة العربية للكوميديا الإلهية وادعى ممازحاً أنه طالع كل الموروث العربي خلال أسبوع، فذلك يعني أنه شارب حليب غير مُدخّن ونؤوم ليل. عندما أقول ذلك، فإني أخمّن في "النائم المتهور" لرينيه ماغريت، وفي الآية الخامسة من الإصحاح الأول لسِفر يونان.

فقه للحكاية عند كيليطو، هو كما فعل الطيب الصديقي مع المسرح، معيداً تفعيل الموروث العربي فوق الخشبة بنظام فقهي/فرجوي خاص. إنهما يشتركان في صناعة مشهدية للتراث، صارمة ونزقة في آن، انطلاقاً من ثيولوجيا سردية مشفرة. حتى إنّ مشاهدة مسرحيات "محاكمة أبي حيان التوحيدي" (1984) أو "مقامات بديع الزمان الهمذاني"أو "الفيل والسراويل" (1997) للصديقي، قد تكون مكملة لقراءة مؤلفات كيليطو النقدية أو مغنية عنها. إنهما يجعلاننا نصاحب ونصادق ونرى ونسمع أشخاصاً أقبروا منذ ألف سنة، أو لم يوجدوا البتة، لكنهما معاً لا يخرجان عن مدار الطرافة والنكتة، عما نسميه في فاس بـ"النقايم"، أي المستملحات اللاّسعة والمقلقة.


يوهمنا كيليطو بأنه أديب وقارئ دون المواقف، بلا خطاب مؤسّس أو مقصد غائي، ولعلّه كذلك ما دام يقوله عن نفسه، لكنه على الرغم من ذلك يصنع في متونه مكاناً لجمالية سياسية تناقش هوية المؤلف وعملية الكتابة، واللغة وفضاءاتها وتحاججها في محاولة لمراوغة القول السياسي الصريح الذي قد يتبناه أدب اللّجاج. يكتب الجاحظ في مكان ما: "وناس من أهل الكلام نظروا في الجزء والطّفرة والمداخلة والمجاورة قبل أن ينظروا في التوحيد والعدل والآجال والأرزاق". يخاف كيليطو إذن من مقايضة الواقع بالخيال، الكليات بالجزئيات، الباطل بالحق، الجد بالهزل، الدعابة بالصرامة، إلخ. على هذا النحو يدغم الثنائيات، مخافة الحساب والتهجير، فـ"لا تغيير للمكان دون عقاب"، كما يقول صاحبنا وهو يتحدث عن ازدواجية اللّسان. هذا بالضبط ما يجعل منه، وهو يقصد الأمر عن وعي، حكواتياً ساذجاً أو معلقاً هامشياً على متن سحيق. يكتب عبد السلام بنعبد العالي في مقدمة "الأدب والميتافيزيقا" (2009)عن كيليطو، صديقه وصديق الجميع ولا أحد: "بأي حق ندرج كاتباً لا يهتم كثير الاهتمام بالفلسفة أو بتاريخها، ولا يوظف مفاهيمها، بل ولا يشغل نفسه بالمفاهيم المغرقة في التجريد حتى في كتابته النقدية، بأي حق ندرجه ضمن دراسات تهتم أساساً بتعامل مفكرينا مع التراث الفلسفي؟". إنّ كيليطو فقيه للحكاية، وليس منظّراً لها، بل هو أهم رواة العرب المعاصرين بلا منازع، مثل شخصياته الأثيرة القادمة من "ألف ليلة وليلة"، فلماذا نحاول أن نحمّل أسانيده ما لا طاقة لها به؟

الاستهلال والترميز
غالباً ما يقارن المعجبون بكيليطو، بينه وبين بورخيس، حارس المتاهات والعتمة، ولا يتوانى هو نفسه في اعتبار الأرجنتيني البصير واحداً من الكُتّاب الذين يساعدونه على الحياة. يقرأ كيليطو بورخيس باعتباره كاتباً عربياً. لكن بورخيس، عكس كيليطو، لم يشعر يوماً، على ما يبدو، بأزمات النُّقلة الثقافية والمعرفية، لا اتجاه الإسبان ولا اتجاه الأميركيين، والتي غالباً ما تتكرر في التأليف النقدي والأدبي لدى صاحب "الكتابة والتّناسخ" (1985)، وإنّما عاشها كطلسم وتعويذة اذخرهما من الخزانة الوطنية لفتنة الناس والعالم. لم يتوان بورخيس أيضاً في التعبير عن مواقفه بخصوص الشأن العام. يقول: "لم أُخفِ أبداً آرائي حتى إبّان السنوات الصعبة، لكني لم أدعها تتدخل في عملي الأدبي". لعلّ كيليطو أحسّ في لحظة ببعد التجربة، وتذكّر أنه في نهاية المطاف أكاديمي، وربما اقتنع في لحظة وقال: لا يمكن أن أكون بورخيس. ما جعله يتدرّب على كتابة Les essais ليقترب منه على الأقل، وقد نجح في ذلك بأناقة منقطعة النظير. لكنه ما زال يبتعد عنه كلما مشى مشية البهلوان على حبل سيرك النشر والترجمة، طالباً النثر السردي ومقبلاً على التدخين بشراهة، متحولاً بذلك إلى نظير ثقافي وإعلامي لكاتب مثل أمبيرتو إيكو. ينجح كيليطو، وهو قارئ كبير لا غرو، في اختيار استهلالات محاولاته النقدية، بيد أنه يفشل أمام الصنعة المعاصرة، كأن يختار عنواناً من قبيل "حصان نيتشه" لمجموعة حكاياته. إنه عنوان مثير للضحك، ويشبه "اسم الوردة" في نحته وفشله. ربما يكون هذا بالذات هدفه: أن يضحكنا.


إنّ الاستهلال هو قرض بورخيس الدائم لكيليطو، يأخذه منه طواعية ويُعرّب صكّه داخل الفرنسية التي يكتب بها. لكن هل إن اختيار الكلام حقاً أصعب من تأليفه، حسبما يورد صاحب "العقد الفريد"؟ يكتب كيليطو: "لن أتردد في القول إن زبدة كتبي توجد مكثفة في استهلالاتي (...) يمكننا الاقتصار عليها إلى حد ما. لكن ما يثير الدهشة، هو أن معظم القراء لا يقرأونها، والأدهى أنهم لا يتبينونها. قلة من العارفين هم الذين يفكون شفرات اللغز الذي تنطوي عليه. إنه عمى القارئ... العين والإبرة، الوضوح الذي يعمي الأبصار، وهو ما يشير إليه المعري. يُطرح السؤال عن أسرار النص، في حين أن المفتاح موجود في الاستهلال".

يدافع كيليطو بشكل من الأشكال، تارة عن باطنية ملغزة ومحكمة التشفير لفكرة الاستهلال، يستلهمها من طفولته المسكونة بالكتب المتناثرة في ذكرياته، وتارة أخرى يدافع عن رهبنة وديعة قد تعيد إلى الأذهان لوحة "مناولة المفاتيح إلى القديس بطرس". كما لو كان يخبرنا بأنانية الطفل الحاذق: أنا عبد الفتاح، حامل المفتاح. إلى جانب الاستهلال، يمتدح كيليطو الغموض، معتمداً على كلام أحد رواد الكتابة الشذرية في القرن العشرين. يقول في حوار مطول منشور هذا العام: "لا ينتج الوضوح إلا الأعمال السخيفة. يؤكد سيوران: اللعنة للكتاب الشفافين، لا نجاة إلا للكتاب الغامضين. ما قيمة العمل من غير أسرار؟". قد يكون كيليطو على حق وهو ينعت نوعاً من الأدب "الواضح" بـ"السخيف"، لكن استشهاده بالشذرة في تبريره يزيد من اللّبس لا من الألغاز: بأي معنى يكون الغموض مرادفاً للسّر؟ وكيف يحقق الاستهلال انكشاف الأسرار بلا استسهال أثناء مغادرة النص؟

بعدما غادرتُ مكتبة دار المأمون، أخبرني الزميل خ.أ.ب.غ ان كيليطو زارها مرة أو مرتين. كان قد تردّد عليها قبله مرّة، القاص المغربي الملغز والبسيط أحمد بوزفور، وحكى لي عن امرأة (حقيقية) تلاحقه في كل الندوات والقراءات لتثير الفوضى وتتهمه أمام الناس بالكتابة عنها، ملوحة بعلب علاجها النفسي. التقيت هذه المرأة عند باب المكتبة الوطنية في الرباط وأنا أستعد لتقديم لقاء مع بوزفور. سألتها: لماذا أنت منزعجة وحريصة على دخول قاعة الندوة؟ هو لا يكتب عنك. لقد قرأت بعض قصصه. أنت غير موجودة. قالت لي: ما زلتَ صغيراً يا بني، ولن تفهم تعقيد النص. قالتها، وانصرفت خوفاً تحت تهديد كلب حراسة.

زار المكتبة في مراكش، بعد قدوم أحمد بوزفور بسنوات، عبد السلام بنعبد العالي، مترجم كيليطو وصديقه، لإلقاء محاضرة في موضوع الترجمة. وأتذكر، في ما أتذكر من ذلك اللقاء، أننا تحدثنا عن تحوّلات السكران من أسد إلى عنزة مع توالي الكؤوس وانحدار السّهرة. لمّا علمت بزيارة صاحبنا، حرّضني خيالي الشرير على تمثله ثملاً يَعبر البوابة الزجاجية ويسقط تحت قبة أبي العلاء، تحت السقف المنقوش، عند الزليج الكستنائيّ تماماً، وهو يتلعثم من قصيدة "نسيم بحريّ" بأسى شعري مربك لبيتَها الأول: "البدن محزون، يا للأسف! وقد قرأت كل الكتب".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها