الجمعة 2017/10/20

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

في كوبا.. تعرفتُ إلى علي الديك

الجمعة 2017/10/20
في كوبا.. تعرفتُ إلى علي الديك
هل هناك من يعرف عُرابي اليوم في هافانا؟
increase حجم الخط decrease
يظل الأمر مدهشاً كلما صادفني في مدينة بعيدة، إشارة تعود بي إلى المنطقة التي أنتمي إليها ولغتها. فعلى سور تاريخي في لشبونة، تجد نقوشاً لبيت من الشعر بالعربية، وعلى ألسنة سكانها لا يندر أن تسمع لفظة منها محرفة قليلاً، أو كما هي. وعلى نواصي شوارع وسط نيويورك، لا يمكنك تحاشي "رجل الفلافل" الشهير. وفي ميلان، تحتار في أي من كنائس الجالية القبطية العديدة عليك أن تقضى ليلة عيد الميلاد. وبعد أن تضل الطريق في دلهي القديمة، ربما لن يعينك على تلمس طريق العودة سوى الأحرف العربية ليافطات الشوارع المكتوبة بالأوردو. وفي سانتا كروز في بوليفيا، تقابل امرأة تخبرك أن جدّها الكبير جاء من جبل لبنان، قبل أن ترشدك إلى المركز الإسلامي في المدينة، للقاء إمامه الفلسطيني. لكن تلك الدهشة، التي تحفظ براءة مفاجأتها كالمرة الأولى، لا ترجع إلى زهو بالانتماء إلى موضوعاتها أو إلى صلة مفترضة بعروبتها، بل إلى ذلك العجب التي يثيره تكشف الطبقات السميكة لتاريخ البشر وعمرانهم، ومسارات ارتحالهم، وما حملوه معهم وما تركوه خلفهم، وهم يغالبون الجغرافيا حيناً، وتفعل هي فعلتها بهم حيناً آخر.

بمجرد الوصول إلى مطار هافانا، يمكن تبين واحدة من تلك الصلات المدهشة. فخوسيه مارتي، بطل الاستقلال الكوبي وفيلسوفه السياسي الأهم، والذي يحمل المطار اسمه، نُصب تمثال لذكراه في ساحة الاستقلال، أهم ميادين المدينة. وهو كان أيضاً شاعراً، وواحداً من رواد الأدب الحديث لأميركا اللاتينية. بدأ مسيرته الأدبية وانخراطه في السياسية، بنشر قصيدة طويلة، بعنوان "عبد الله". وفي النوبة، دارت أحداث البطولات لفارس ملحمته ذي الاسم العربي، في مواجهة الغزاة، وهي الملحمة التي أسقط عليها مارتي طموحاته لاستقلال كوبا. ولم تكن تلك النوبة التي نعرفها، بل نوبة الكلاسيكيات اليونانية والعهد القديم "كوش"، التي عرفها هو جيداً، ومزجها بتصوراته عن العرب، "الكائنات الرشيقة والجذابة، والشعب الأنبل على وجه البسيطة"، والتي استمدها هذه المرة من التخيلات الطوباوية لعصر التنوير الأوروبي عن البداوة، المتحررة من كل قيد.

لكن صاحب قصيدة "أنا أعرف مصر"، لم تكن كل تصوراته عن بلاد العرب غارقة في الخيالات الكلاسيكية. ففي سبتمبر 1881، كتب عن "الحدث الخطير، الذي له أن يحرك أوروبا، ويهز أفريقيا"، وكان ذلك واحداً من أروع نصوصه الصحافية الطويلة، تخلله مشهد مسرحي لحوار بين أحمد عرابي والخديوي توفيق، لا يكشف فقط عن بلاغة مارتي، وعمق اطلاعه على تفاصيل ما كان يجرى في مصر وخلفياته السياسة والاقتصادية، بل أيضاً عن عمق تأثير "ثورة الفلاحين" و"روحها المصرية" في ذهنه. ففي نهاية العام نفسه، انضم مارتي، وكان منفياً في نيويورك، إلى "اللجنة الثورية الكوبية"، ليلتحق، للمرة الأولى وبشكل علني، بدعوة استقلال كوبا عن التاج الإسباني. 

وجدتُ الفكرة التي راودتني أثناء وقوفي في طابور الجوازات في المطار، مضحكة. فهل هناك من يعرف عُرابي اليوم في هافانا؟ بالطبع لا. لكن لاحقاً، كان لي أن اكتشف أن البعض يعرف "عبد الله"، ويحفظ أبيات ملحمته عن ظهر قلب، ومعها أسماء عربية كثيرة. في التاكسي من المطار إلى الفندق، أخبرني السائق أن اسمه "عُمر". وبفضل راكب آخر كان قد شاركني رحلتي وترجَم الحديث بيننا، سألتُ عمر إن كان يعرف أن اسمه عربيّ، فأجابني بكثير من الانتشاء، أنه يعرف ذلك جيداً جداً، وأن جدّه الكبير جلبته سفن العبيد من غرب أفريقيا إلى مزارع القصب في كوبا، وأن هذا كان اسمه الذي ورثه عنه، ومعه صلاة بالعربية تناقلتها الأجيال. أسمعَني منها عبارة واحدة، ولم يبد لي أي من كلماتها عربياً، سوى كلمة "الله". لم يكن هذا "عُمَر" الوحيد الذي قابلته. فخلال أسبوع واحد في كوبا، قابلتُ "عُمرَين"، كان ثانيهما لا يعرف الكثير عن اسمه. 


وبعدما وضعتُ حقائبي في الفندق، وكان الوقت متأخراً، انطلقتُ بحثاً عن مكان للأكل. تمشيتُ في شارع الفندق نفسه، والذي كان خالياً من المارّة، وكل محاله مغلقة، وفي نهايته التي تقود إلى كورنيش المدينة، لم يكن هناك سوى طريق سريع، والمحيط. كنت على وشك الرجوع إلى الفندق بلا عشاء، حين تهادى إلى أذني ما ظننته غناء عربياً، وكان بالفعل. انحرفتُ يميناً متتبعاً الصوت. وعلى بُعد خطوات، رأيت اللافتة المضيئة المكتوبة بحروف لاتينية "شاورمة بيروت". في الداخل، سألت النادلة إذ كان هناك من يتكلم العربية، وهو ما توقعتُ أن تكون أجابته "لا"، لكني كنت مخطئاً. جاء مدير المكان، وقدم نفسه: سوريّ في الخمسينات من عمره، حضر إلى كوبا قبل ثلاثين عاماً لدراسة العمارة، وتزوج كوبية وعاد معها إلى دمشق بعد حصوله على شهادته، إلى أن اندلعت الحرب في سوريا، فغادر وعائلته إلى هافانا. قضينا أمسية لطيفة، أخبرني فيها عن سوريا، والحرب، والشتات وغربته، بينما كانت الشاشة المعلقة في المطعم، تعرض فيديو كليبات لأغان عربية، لم أتعرف على أي منها، حتى أخبرني هو، عندما بدأت واحدة منها، أن هذا هو أفضل مطرب في سوريا، واسمه على الديك. 

في الأيام اللاحقة، كانت تلك الصدف المدهشة قد توقفت لبعض الوقت. فباستثناء سيارة تابعة لمؤسسة مياة الشرب والصرف الصحي في هافانا، والتي حملت شعار عَلَم الكويت متقاطعاً مع العَلَم الكوبي، ممهوراً بالإسبانية "المعونة الكويتية"، فإجابتي على سؤال "من أي بلد أنت؟" والذي يعاد في المدينة عشرات المرات كل يوم، كانت تجتذب إشاحة ساخرة بالبيد "بعيدة جداً"، ومرة "إكزوتيك"، ومرة أخرى هتف سائلي بحبور "ناصر رجل عظيم". 
ُ
في اليوم قبل الأخير من زيارتي، وفي طريقي إلى متحف الثورة الكوبية الذي لم أنجح في زيارته في النهاية، وجدتُ نفسي أمام لافتة بالعربية "المركز الثقافي الكوبي العربي". في الداخل استقبلتني، غلاديس، المرأة الكوبية الخمسينية، التي تتحدث الفصحى جيداً مع بعض التعثر. وقادتني بين قاعات المركز، الذي زينت جدرانه صور لشخصيات كوبية كانت أسماؤهم الأولى الإسبانية تنتهي بأسماء عائلية عربية، لا يصعب تبيان أصولها الشامية، وإلى جانبها صُور تبدو من الثمانينات، لياسر عرفات أثناء زيارته للمركز نفسه. كانت غلاديس قد سألتني أكثر من مرة، "هل تريد أن تشاهد أستاذ اللغة العربية السوري؟"، قبل أن يصحح لها زميلها، الذي ربما كانت عربيته أفضل منها، لكن خجله منعه من الحديث معنا، "تَرَى، هي الكلمة الصحيحة، وليس تُشاهد". التفتت إليّ غلاديس، معتذرة، وقالت:" أنا لست عربية أصلاً، لكني قررت أن أكون عربية، لأنني أحب بالاستينا". ولم يصحح الزميل لغلاديس طريقة نطقها لكلمة "فلسطين"، وإن ظهر امتعاضه من أخطائها المتكررة. 

في ظهيرة اليوم الأخير، وقبل ذهابي إلى المطار، تناولتُ غداء خفيفاً، في مقهى يحمل اسماً فارسياً "توبلي"، وزُينت جدرانه الخارجية، إلى جانب صورة غيفارا، بصورة لأم كلثوم كُتب تحتها بالعربية "كوكب الشرق". ودارت في ذهني، وأنا أودّع المدينة، فكرة أخرى مضحكة، كالتي بدأتُ بها زيارتي: كيف احتاج الأمر أن أقطع كل الطريق إلى كوبا، لكي أتعرف إلى "علي الديك"؟ 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها