الأربعاء 2017/10/18

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

خزعبلات "الشيخ جاكسون"

الأربعاء 2017/10/18
خزعبلات "الشيخ جاكسون"
يحكي الفيلم عن إمام مسجد فقد القدرة على البكاء
increase حجم الخط decrease
شاهدتُ فيلم "الشيخ جاكسون" مرتين متتاليتين. حين تصيب الدهشة أحد المتفرجين في صالة العرض، فإنه قد يتلفت حوله –تلقائياً- كمن يبحث عن المؤازرة، حتى وإن واجه دهشته وحيدًا. وعندما انتهيت من مشاهدة الفيلم في المرة الأولى، التفتُّ إلى الجالسين خلفي، فربما وجدت بينهم من يؤكد أن العرض لا يزال مستمرًا، إذ كيف ينتهي فيلم لم يدرك إلا النصف من كل ما عرضه؟ أما في المرة الثانية، فقد غادرت الصالة قبل المشهد الأخير، ليس لأني أعرف ما سيجري مسبقًا، وإنما لشعوري بأن المخرج عمرو سلامة أنفق وقتًا أكثر من اللازم ليلقي على المشاهدين أفكاره.


يحكي الفيلم عن إمام مسجد فَقَد القدرة على البكاء، بعدما علم بوفاة أيقونة مراهقته مايكل جاكسون، فاندفع باحثاً (يحاول العمل الإيحاء بأنه بحث محموم) عن علاج لعلته، وهي علة ناتجة بحسب ما تكشف الأحداث، عن فقدانه القدرة على التعبير عن ذاته، نتيجة للمحاولات المتتالية من جانب المحيطين به لتنميطه في قوالب تبدو غريبة عن شخصه الحقيقي.


مأزق الوجود والرسالة
مثل اثنين من أصل أربع أفلام روائية طويلة، يتبنى "الشيخ جاكسون"، وهو الفيلم الخامس لعمرو سلامة، التصور الوجودي ذاته؛ أن قَدَر الإنسان تشكله دائرة من الصدف، تدفع به للوقوع في أزمات تؤرق حياته، ولا يكمن الحل في تجاوزها إلا بالتصالح مع قدره، وهو التصور الوجودي الذي تتبعه بالضرورة بُنيَة ثابتة حكمت أفلام سلامة الثلاثة (زي النهاردة، صنع في مصر، وجاكسون). صدف متكررة تقود إلى أزمة يفشل البطل في تجاوزها؛ فلقاء بحكيم يمنحه النصيحة التي تدفعه فورًا للتصالح مع قدره ثم ينتهي الفيلم!

فاليوم الذي يكتشف فيه خالد هاني عبد الحي، أي "الشيخ جاكسون" (أحمد مالك/أحمد الفيشاوي)، بالصدفة، أن ابنته مغرمة بالمغنية بيونسيه (وهو تكرار لغرامه السابق بجاكسون) يكون هو نفسه اليوم الذي يرحل فيه ملك البوب. كذلك فإنه يكتشف، بالصدفة أيضًا، أن الفتاة التي أحبها (سلمى أبوضيف/ياسمين رئيس) مصابة بمرض الربو المتسبب في وفاة أمه (درة) وهو الاكتشاف الذي يقوم على إثره بتغيير حياته إلى النقيض والتحول إلى رجل دين محافظ، وهو تحول لا يتوقف عنده الفيلم لإيضاح آليته بالمرة. أما الصدفة الثالثة فوجود عيادة الطبيب النفسي في المبنى نفسه حيث عيادة طبيب العيون الذي قصده لبحث مسألة غياب الدموع عن عينيه. وهي الصدفة التي تقصّر رحلة البحث عن العلاج، لكنها صدفة يمكن التصالح معها إذا قبلنا بلجوئه الى طبيب عيون بدلاً من عالِم دين. فشخص يعتنق أفكار هذا الشيخ "السلفية"، كان سيظن أول ما يظن، أنه مموس من الجن وأن علاجه لا بد أن يكون عند "عالم دين" وليس "عالم دنيا" كالطبيب، خصوصاً أن شبح مايكل جاكسون كان يلازمه كلما ذهب إلى "المسجد" حتى أنه دفعه في إحدى المرات إلى قطع الصلاة والاعتداء على أحد المصلين!

غير أن فلسفة سلامة الساذجة في مسألة تفسيره لحاكمية القدر، ليست الرسالة التي يريد الفيلم إيصالها. فأفلام صاحب "لامؤاخذة" تحمل كلها رسائل إصلاحية واضحة، وغاية "شيخ جاكسون"، الذي كتب المخرج قصته بالاشتراك مع المؤلف عُمر خالد، أن يقول إن المحافظة التي يحاول سلامة إظهارها في صورة أكثر لطفًا من التشدد، يمكن أن تتعايش في سلام مع الليبرالية. وهي رسالة لا يفصح عنها صراحة إلا مع مشهد النهاية، وإن ظهرت بوادرها قبله من خلال التصالح الذي أبداه البطل مع شرب الخمر. فبعدما كانت الخمور تلاحقه؛ كأن يلقي عليه أحد المشاغبين زجاجة بيرة بينما يسير في الشارع، صار عادياً أن يذهب الى مقهى يشرب زبائنه الخمر في النهار بصورة اعتيادية مثل احتسائهم الشاي، أو أن يذهب لزيارة أبيه الذي يمتلئ منزله بالكحوليات، بالرغم من امتناعه عن زيارته في السابق للسبب ذاته. غير أن هذه الرسالة تتجلى بوضوح خلال المشهد الأخير من الفيلم، حينما يرقص أحمد الفيشاوي على أغنية لمايكل جاكسون بينما يرتدي الجلباب الأبيض القصير.

ويبدو أن السبب في تأخير المؤلف رسالته تلك، حتى مشهد النهاية، عائد إلى اعتقاده بأنها قد تؤدي الوظيفة نفسها التي أدتها النصيحة التنويرية للأب، فتؤثر في المُشاهد بما يكفي لجعله يتغاضى عن البين الواضح بين قالبَي "الالتزام" و"الليبرالية" اللذين يصدرهما الفيلم، ويؤمن بإمكانية تعايشهما في سلام. لكن هذا أمر صعب. إذ أن اختيار المخرج لفعلَي احتساء الخمر والاتصال الجنسي خارج إطار الزواج، كلازمة للشخصيات المحبة للحياة/المتحررة، في مقابل الصورة البريئة التي ظهر عليها "جاكسون" قبل وبعد اعتناقه التدين السلفي، لا يصور الأولى باعتبارها تحررًا وإنما انفلاتاً أخلاقياً، ويخل في الوقت نفسه بتكافؤ كفتيهما في ميزان المتلقي المفترض لتلك الرسالة.



المباشرة في مقابل 
الغموض
تعكس الرغبة المتكررة لبطل الفيلم في النزول إلى القبور والنوم أسفل السرير (كمرادف للنوم داخل اللحد)، شعوره الدائم بالكبت نتيجة محاولات المحيطين به فرض السيطرة عليه وسجنه داخل قوالب مسبقة أعدوها له. كذلك توحي رغبته في استعادة القدرة على البكاء، لا برغبة في استعادة إيمانه، وإنما استعادة الوسيلة الوحيدة التي استطاع من خلالها –أخيرًا- التأثير في غيره، حيث يبكي لبكائه المصلون. ورغم وضوح/مباشرة إشارات الفيلم، إلا أن الروابط بين الأبطال وتحولاتهم والأماكن وتغيرها جاءت واهية وغامضة في كثير من الأحيان.

من المفترض أن يستغني العمل الفني عن بعض التفاصيل العادية للحياة التي يتعرض لها، كي يتخلص من الترهل الذي قد يصيب أحداثه، ومن الجائز أيضًا أن يصنع المؤلف قفزات سردية وأن يترك للمشاهد بعض الفراغات ليملأها، عبر استنتاجاته المستندة إلى علاقات عناصر النص بعضها ببعض. لكن التناول السطحي لحياة الشخصيات في "الشيخ جاكسون" من جهة، والقفزات الطويلة التي صنعتها آلية الفلاش باك المعتمدو للسرد من جهة أخرى، حالا دون فهم الروابط والعلاقات داخل النص. فعلاقة دودو/دودة/خالد، بمايكل جاكسون، والتي يفترض أنها العلاقة الرئيسية داخل الفيلم، تبقى مبتسرة. فهو يحبه لشخصه ولا يحبه بسبب ذكرى أمه أو الفتاة التي عشقها في مراهقته، لأنه يرى نفسه وقد اجتمع بجاكسون في النار كترجمة للحديث النبوي "لا يحب رجل قوماً إلا حُشر معهم". ورغم ذلك، لم يكشف خالد ولو لمرة عابرة، عن أسباب إعجابه بجاكسون إلى حد الوله. كذلك، لا يمكن تخيل آليات التحول الدرامي في شخصيته، من مجنون بملك البوب، إلى سلفي، إلا عبر التصور النمطي لحال مراهق متخبط اضطر للعيش مع خاله المتشدد هربًا من أبيه المنفلت. كما أن المُشاهد قد ينفق وقتًا أكبر من الذي قضاه في مشاهدة الفيلم ليحزر ماهية وظيفة بطله الذي يقوم بأعمال متعددة داخل استديو لتسجيل شرائط الكاسيت. فبعد الكثير من التخمين وعصر الدماغ، سيتذكر أن والد البطل كان يهدده بتسويد عيشته إذا لم يستطع الالتحاق بكلية الهندسة. وبالتغاضي عن إهمال "جاكسون" المتكرر لدروسه وتركه لبيت أبيه عقب ظهور نتيجة الامتحان (التي لم يوضحها الفيلم)، يمكن الربط بين الهندسة والاستديو، لتكون وظيفته "مهندس صوت". لكن كليات الهندسة في جامعات مصر الحكومية كلها تخلو من أي قسم متخصص في هندسة الصوتيات، في حين تحتوي عليه أقسام المعهد العالي للسينما. ومن الطبيعي ألا يُقبل "سلفي" على الالتحاق بدراسة السينما. إذن، فالبطل لم يلتحق بالمعهد، والتفسير الأقرب أنه درس الهندسة وتخصص –مثلاً- في الكهرباء؛ أقرب أقسام الكلية إلى دراسة آلات تسجيل الصوت. لكن لماذا يقرر مهندس دارس للكهرباء أن يعمل في تسجيل الصوت –البعيد من اختصاصه- دون غيره؟

الدراما في خدمة عمرو سلامة
والتفصيلة الأخيرة، رغم تفاهتها وسفسطة تتبع الإجابة عليها، تكشف الكيفية التي صنع بها عمرو سلامة فيلمه. إذ طوّع عناصره كلها لخدمة الأفكار التي أراد أن يلقيها على المتفرج، لا لخدمة الدراما التي تقتضيها أحداث قصته. فسبب الربط الساذج بين دراسة الهندسة ووظيفة مهندس الصوت –مثلاً- يعود إلى رغبة سلامة في أن يرصد آلية تسجيل خطب ودروس المتشددين دينيًا. كذلك، فإنه وضع السلسلة الذهبية العائدة إلى أم "جاكسون" –عنوة- في الصندوق الذي يظهر في نهاية الفيلم وقد ضم "كراكيب الماضي"، فقط ليوحي للمشاهد بأن جاكسون استعاد حياته "الجميلة" باستعادته للصندوق، حتى وإن تعارض ذلك مع منطق الدراما لاستحالة تفريط البطل في هذه الذكرى المهمة عن والدته.

ولا يقفز سلامة على دراما فيلمه فقط، وإنما يتحدى الزمن والمسافة في بعض الأحيان. ففي مشهد غريب، يضطر بطل الفيلم للانتظار أسفل منزل أبيه في الإسكندرية، ريثما ينتهي الأخير من لقاء جنسي مع إحدى السيدات، فيغلبه النوم، ولا يستيقظ إلا على زوج تلك المرأة وهو يجرها خارج البيت. وبدلاً من أن يهب للاطمئنان على والده، فإنه يتصل مستغيثًا بخاله الذي يسكن بعيدًا في القاهرة، ثم ينتظر حضوره الذي لا بد أنه قد استغرق ساعات، قبل أن يصعدا سويًا لرؤية أبيه. ولماذا هذا كله؟ ليلقن الخال ابن أخته درسًا في الدين، وينصحه بترك بيت أبيه المنفلت والانتقال للعيش معه.

ورغم ذلك، لم يأت الفيلم كله مخيبًا للأمال. فهناك نقطة واحدة مضيئة، تتعلق بالأداء التمثيلي المدهش الذي قدمه ماجد الكدواني، وقد آثرت –متأسيًا في ذلك بعمرو سلامة- تأخير تلك الإشادة إلى نهاية المقال، ليس لتحسين صورة العمل، ولا رغبة في أن تكون آخر ما يعلق في ذهن القارئ، وإنما خوفًا من أن تطمسها مثالب الفيلم فتتوه إن ذكرتها في موقع متقدم.

(*) أعلن المخرج عمرو سلامة أن فيلم "الشيخ جاكسون" سيعرض في الصالات الأميركية خلال النصف الاول من العام 2018.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها