الأربعاء 2017/10/18

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

"تجديد جورج أورويل": اليسار ينقذ العالم!

الأربعاء 2017/10/18
"تجديد جورج أورويل": اليسار ينقذ العالم!
كأن العولمة فشلت في نشر الثقافة ونجحت في نشر القهر
increase حجم الخط decrease
منذ طرحها وحتى الآن، هناك مئات القراءات لرواية جورج أورويل "1984"، لكن بعض القراء والنقاد ومنهم جلال أمين يرون فيها في الأساس، تصويراً ورفضاً لما يتعرض له الفرد من قهر في العصر التكنولوجي الحديث.

أراد أورويل للرواية –طبقاً لهذه الرؤية- أن تطلق تحذيراً مما يمكن أن يأتي به المستقبل، بل مما كان واثقاً أن المستقبل سيأتي به، ما لم ينتبه الناس إلى حقيقة الأمر قبل فوات الأوان. لهذا، يقول أمين في كتابه الجديد "تجديد جورج أورويل أو ماذا حدث للعالم منذ 1950"(*)،  إن أورويل اختار تاريخاً يبعد نحو ثلث قرن عن الوقت الذي كان يكتب فيه الرواية، لكنه في النهاية مجرد رقم، لا قيمة له في ذاته، "فأورويل لم يقصد به إلا وقتاً ما في المستقبل".

220 صفحة قال فيها جلال أمين، بكل الطرق الممكنة، إننا نعيش سيناريو متطابقاً تماماً مع ما كتبه جورج أورويل في روايته.. وأن العالم يسير على الدرب نفسه الذي قاد "ونستون" بطل الرواية إلى الخسارة والجنون.

على امتداد فصول الكتاب السبعة، يشرح كيف وصلنا إلى هذه الحالة، وكيف تم التلاعب بالعالم عبر "نظريات مؤامرة" غير محددة الأطراف، وعبر إنكار النظرية أيضاً، وكيف استغلت الشركات الكبرى وسائل الإعلام للسيطرة على المواطنين وتحريكهم كدمى، حتى أصبحوا أكثر ولاء لها من أوطانهم التي يعيشون في كنفها. يفسّر كيف تغيرت فكرة الوطن، وكيف تحققت الغربة داخله، وكيف تتلاعب القوى الكبرى بالجميع، بطرق ووسائل جديدة تماماً، في مسرحية عبثية مجهولة المؤلف.

وللأسف لا يقدم جلال أمين أي حلول، فقط يضعك أمام مشاكلك، واجهها، حلها وحدك، أو اقطع شرايينك، افعل ما يحلو لك. أما هو، فيخرج نفسه من القصة تماماً. يحكى كجدٍّ عجوز طيب، خبر الدنيا، وقنع بما حاز منها، ولم يعد يرغب في شيء، فقط يريد أن ينقل معرفته عساها تنقذ الأجيال القادمة من مصير يراه على بعد خطوات!

لكن المرة الوحيدة التي خرج فيها عن هذا السياق، كانت في الفصل الأخير، بالتحديد حين تكلم عن اليسار.. ربما باعتباره آخر الحلول، فجميعنا مقهور في نظر جلال أمين، ليس في مصر وحدها، بل في العالم بأسره: الفقير والغني، المحروم من أبسط ضروريات الحياة، والغارق حتى أذنيه في الملذات! وفي الوقت نفسه، فإن القوى التي تمارس القهر، لم تكن في أي عصر من العصور أكثر غموضاً مما هي عليه اليوم "ومن ثم فإن التصدي لها عمل أصعب من كل ما عرفه الإنسان من قبل من محاولات الوقوف ضد الظلم". ويؤمن جلال أمين بأن اليمين مفلس، رغم كل الادعاءات بغير ذلك، بل ربما بسبب هذه الادعاءات، وأنه لم يعد يحمل الإنسانية إلى الأمام، بل يجرها إلى الخلف، رغم كل ما يوزعه على الناس من هدايا ومسكنات. ثم يوسع المسألة، فيقول إن إفلاس اليمين ليس ظاهرة مصرية، بل هو حقيقة تنطبق على العالم بأسره، "ويجب ألا يخدعنا ما يبدو وكأنه يعنى انتصاراً للرأسمالية وانحساراً لليسار، الانتصار هو مجرد انتشار أوسع لقوى القهر".

من هنا يتم طرح اليسار كحل أخير، رغم انه يرى أن اليسار الجديد أصبح غامضاً، لكن عناصره التي ما زالت في طور التشكل تقول إنه على أعتاب ولادة جديدة، "فالقوى المضادة للحرية والكرامة الإنسانية، أصبح لها من الحدة والانتشار، ما لا يمكن أن يخطئها ذو عينين، مهما اشتدت قوى التضليل وغسيل المخ".. يقول أمين صراحة أننا في حاجة إلى يسار جديد، لكن الشرط الأساس لوجوده لم يعد كما كان في الماضي، الشجاعة والاستعداد للتضحية، بقدر ما هو الفهم الصحيح لما يحدث في العالم.

وما هو الذي يحدث في العالم؟ هو بالضبط ما كتبه أورويل قبل أكثر من 65 عاماً! الخداع والتضليل والقهر وسيطرة القوي على الضعيف. لكن هناك ملاحظات ضرورية يشير إليها المؤلف. فالعالم الآن لم يعد نفسه الذي كتب عنه أورويل، وغسيل المخ الذي يجريه اليوم الممسكون بالسلطة، للفرد، أشد مما كان أيام أورويل. والفرد هذا يتمتع الآن بحرية سياسية أقل في الحقيقة مما كان حينئذ، رغم شيوع الادعاء بعكس ذلك. كما أن الممسكين بالسلطة أيضاً تغيروا، ولم يعودوا هم أنفسهم وقت كتابة أورويل لروايته، ووسائل غسيل المخ لم تعد هي نفسها. لذلك، يؤكد المؤلف على ضرورة "تجديد جورج أورويل"، أي أن نتتبع ما جد من تطورات في طبقة الممسكين بالسلطة الذين يمارسون القهر في العالم، وما طرأ على أساليب الكذب وعلى مضمون الكلام الكاذب "كحلول الإرهاب مثلاً محل الحرب، والتخويف من الإرهاب محل التخويف من هجوم دولة أجنبية". ويصبح من المهم أيضاً متابعة كيف حل القهر النفسي، بإثارة الشهوات والرغبات التي يصعب أو يستحيل إشباعها، محل الحرمان من الأجر العادل ومحل التعذيب المادي -رغم استمراره في بعض الأماكن. وكيف تغيرت، إثر هذا كله، طبيعة شعور المرء بالاغتراب، وما ضاع وما بقي له من وسائل لمقاومة الأنواع المختلفة من القهر.

يوضح المؤلف أنه، خلال العقود الستة الماضية، حدثت أشياء كثيرة أدت إلى تراجع سلطة الدولة لصالح الشركات العملاقة، وتضاءلت أهمية الحدود الفاصلة بين الدول، بعدما أصبح من الممكن لهذه الشركات ولوسائل الإعلام والاتصالات القفز فوقها. اقترن هذا أيضاً بزيادة انتقال العمالة من بلد إلى آخر، مما قوّى الشعور بالولاء للشركة محل الولاء للدولة، "وأدى هذا إلى اختفاء نموذج الحاكم المهيمن، وحل محله نموذج الرئيس الذي يدير مهمة العلاقات العامة".
حدث أيضاً خلال العقود الستة، أن تضاعفت القدرة على الإنتاج، لكن هذه الزيادة الكبيرة في القدرة الإنتاجية لم تُستخدم في إشباع الحاجات الأساسية، بقدر ما استخدمت في توسيع الفجوة بين مستويات المعيشة، داخل البلد الواحد وفى العالم ككل. تنوعت مصادر المعلومات، لكن تدهورت في المقابل نوعية ما ينقل من معلومات إلى درجة أن يتساءل "لماذا يبدو أننا في عصر العولمة الرائع الذي نعيش فيه الآن، قد قلّت معرفتنا بما يحدث في الحياة الثقافية في الخارج، حيث لا تأتينا عنها إلا أخبار مبتورة، أو أخبار شخصية مثيرة، لكنها قليلة الصلة بمضمون أعمالهم".

يتذكر أمين أن الحياة الثقافية في البلاد العربية في مطلع شبابه كانت أكثر توحداً، والصلات بين بلد عربي وآخر أشد قوة مما هي الآن: "كنا نسمع ونعرف عن أدباء وشعراء سوريا ولبنان أكثر مما نعرف الآن، بل كنا نقرأ جدلاً ومناقشات مستفيضة بين أديب مصري وأديب سوري أو عراقي، وكانت المجلات الثقافية المصرية تصل إلى اليمن أو المغرب أكثر مما تصل الآن". أما تفسيره لهذا فهو إننا نعيش "عولمة الاقتصاد"، حيث تنتشر السلع وتنتقل بسرعة أكبر من انتشار الأفكار والمعلومات، وحتى ما ينقل من أفكار ومعلومات ربما يكون الغرض منه في الأساس تسويق سلعة أو تسهيل عملية البيع والشراء، أو ربما تسهيل الوقوع في فخ الألعاب السياسية. ففي سياق حديثه عن "الاستعمار" مثلاً، يقول إن نشر الأفكار والشعارات دائماً ما يكون سلاحاً فعالاً في أيدي المستعمرين، يدعمون بها السلاح المادي، مثل "اختراع" فكرة الإرهاب: "فلتنظر إلى العالم بأسره، ولتخبرني أي بلاد العالم ينجو الآن من هذا الإلحاح السقيم على ضرورة التصدي للإرهاب، وأي شعب من الشعوب نجت أغلبيته من التعرض لهذه المعلومات المستمرة لتلويث المخ؟".

ومن خلال نشر تلك الأفكار يسهل تبرير أي هجمات جديدة، بداية من التفتيش المذل في المطارات، وحتى استعمار الأرض ونهب ثروات البلاد.. وكأن العولمة فشلت في نشر الثقافة ونجحت بدلاً من ذلك في نشر القهر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها