الجمعة 2017/10/13

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

"ديترويت": لا صوت للضحايا

الجمعة 2017/10/13
"ديترويت": لا صوت للضحايا
يسقط الفيلم في فخ المركزية البيضاء
increase حجم الخط decrease
في الذكرى الخمسين لشغب مدينة ديترويت 1967، والذي سقط فيه 43 قتيلاً، معظمهم من السود، برصاص الشرطة وقوات الحرس الوطني، تعود المخرجة الأميركية، كاثرين بيغلو، بفيلمها الجديد، "ديترويت" (2017)، لاستعادة الماضي الذي ما زال له أن يعيد نفسه، بغرض "فتح نقاش حول مسألة العرق والعنصرية في الولايات المتحدة" كما صرحت خلال العرض الافتتاحي للفيلم. لكن "ديترويت" الذي تهاوت إيراداته بالرغم من أنه كان متوقعاً له تصدّر قائمة شباك التذاكر، كان قد نجح في اجتذاب جدل واسع بالفعل، لكن على خطوط اخرى غير التي توقعتها بيغلو، المرأة الوحيدة الفائزة بجائزة أحسن إخراج من الأوسكار والبافتا.

فتفاصيل حادثة "نزل ألجيري"، حيث قَتل رجال الشرطة ثلاثة من النزلاء السود، أثناء استجوابهم عن قناص محتمل، والتي جمعتها المخرجة مع كاتب السيناريو من الوثائق الرسمية وروايات شهود العيان من الناجين الذين قابلتهم، كانت محلاً للتشكيك في مدى حيادتيها، خصوصاً أن المحاكم الأميركية لم تُدن أياً من رجال الشرطة المتهمين في الحادثة.

نجحت بيغلو، صاحبة فيلم "خزانة الألم"، كعادتها، في توظيف تقنيات تكثيف العنف إلى حده الأقصى، لا بغية الإثارة، بل الأذى وتطويعه. فمشهد الاستجواب في ممر الفندق الذي يستحوذ على معظم زمن سرديتها التسجيلية الدرامية، في ثقله المقبض، لا يكتفى بنقل معاناة ضحاياه ورعبهم وتوريط المُشاهد فيهم رغماً عنه. بل يذهب عبر الحوارات المقتضبة والإيماءات العابرة والتفاصيل الدقيقة للمشهد، إلى تفكيك العنف والكشف عن جذوره الاجتماعية والسياسية، على خطوط العرق والجنس أيضاً. لكن كثافة الحدث، الذي تنتقل به بيغلو بسلاسة فريدة بين تقنيات التسجيلي، والفانتزيا الغنائية، إلى دراما قاعة المحكمة، والأكشن، وصولاً إلى الرعب والواقعية الاجتماعية، لا تطغى على حضور شخوصه. ففيما تبدو شخصيات فريق "درامتيكز" الغنائي، إلى جانب الشابتين البيضاوين العالقتين في النزل، مُحكمة مع بساطتها، فإن دور حارس الأمن الذي يلعبه الممثل البريطاني الأسود، جون بويغا، وتمزُّقه بين زيه الرسمي وبين عرقه وهو يحاول التوسط بين الشرطة وبين الضحايا، وكذا إنقاذ نفسه من مصيرهم وتهمة قتلهم لاحقاً، تكمن روعته، ليس في تعقيده الفردي وإحالاته الاجتماعية الأوسع فقط، بل في التباس المشاعر التي يتركنا أمامها بخليط من التعاطف المهين والشفقة الممزوجة باحتقار ضمني.

لكن، ومع الاحتفاء النقدي بتقنيات "ديترويت" ورسائله، فإن الجدل الذي رغبت فيه بيغلو انقلب ضدها في النهاية، فعدد من النقاد والناشطين ذهبوا إلى أن مخرجة الفيلم وكاتب السيناريو، وكلاهما من البيض، وإن كانوا قادرين على الإلمام بتفاصيل واقعة "نزل ألجيري" وتجسيدها سينمائياً ببراعة، فإنهما في الوقت نفسه غير قادرَين على تفهم معاناة ضحاياها من الأميركيين الأفارقة، أو حتى الاقتراب ولو قليلاً مما تعنيه التجربة الحياتية للأقلية السوداء في الولايات المتحدة. ومع أن النقد دفع بيغلو إلى الإقرار بأنها "ليست الشخص الأنسب لتمثيل تلك المعاناة"، فعملها ونواياها لا يجب أن يؤخذا ضدها بالطبع. لكن، بعيداً من جدل "التمثيل" والذي أخذ مساحة في هوليوود في السنوات القليلة الماضية، يحمل "ديترويت" في طياته ما يستدعى الكثير من عدم الراحة. 


وبالرغم من المقدمة التسجيلية والتي تبدأ من الحرب الأهلية الأميركية، و"الهجرة الكبرى" للأفارقة الأميركيين إلى ديترويت، والصعود الصناعي للمدينة ثم انهياره، فإن التجسيد الدرامي اللاحق لانطلاق شغب ديترويت، يفتقد إلى الحد الأدنى من الحساسية تجاه من قاموا به ودوافعهم. فالجماهير السوداء التي تبدأ بتحطيم واجهات المحال ونهبها، وإشعال الحرائق في المباني السكنية، لا يظهر في الفيلم أن لديها مبررات كافية للغضب، بل لا تظهر عليها أي علامات له، فمعظمهم كان مبتسماً أو منخرطاً في نوبة من الغناء والرقص أثناء ارتكاب شغبهم في متعة. تظهر تلك الحشود بلا صوت، فعلاً لا مجازاً، مجرد خلفية مزعجة من الأصوات والوجوه الخالية من التعابير ذات الدلالة. وحتى في مشهد ممر النزل، تظل المشاعر موجّهة إلى العنف ولا عدالته ومرتكبيه من رجال الشرطة البيض، لا اتجاه ضحاياه. ينتهي الفيلم بنا بطاقة من الغضب، والنقمة، لكنه غضب نيابةً عن الضحايا، لا معهم أو من خلالهم، ليسقط في فخ المركزية البيضاء، مكتفيا بأن يكون فيلماً عن العنصرية "البيضاء"، وتلميحاً للمعاناة "السوداء" لا يتجاوز خدش سطحها السميك. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها