الثلاثاء 2017/10/10

آخر تحديث: 11:37 (بيروت)

مصر إلى كأس العالم.. هل يحق لنا أن نفرح؟

الثلاثاء 2017/10/10
مصر إلى كأس العالم.. هل يحق لنا أن نفرح؟
أعلام، أناشيد وطنية، وشرطة.. لكنها ليست ثورة
increase حجم الخط decrease
لا تباع الأعلام في الشوارع المصرية إلا في مناسبتين: ثورة، أو مباراة حاسمة عند المنعطفات الأخيرة من بطولة شرسة. ولا تزدهر الأناشيد الوطنية، ولا تدير الإذاعة أسطوانات "المصريين أهمة" إلا في هاتين المناسبتين. ولا حضور للشرطة وعربات التأمين والمدرعات، والجنود المتحمسين المدججين بالهراوات، إلا في هاتين المناسبتين. لذلك كانت الشوارع المصرية، مساء الأحد الماضي، على موعد مع كل هذا: باعة الأعلام، والأناشيد الوطنية في الإذاعات، والشرطة والمدرعات المصفحة، ليلة تأهل مصر إلى كأس العالم. إلا أنا..

في تلك الليلة، ارتبطتُ بموعد الصف الدراسي المسائي حيث أتعلم اللغة الألمانية. كانت الشوارع حول المعهد، تستكين وتموت فيها الحركة، المقاهي تستعد، عمالها يغيرون ماء النراجيل، استعدادات هائلة في نصبة القهوة، صبيان الشيشة يرصون أحجار المعسل والزغلول والتفاح، وكذلك الندّل يوضبون الموائد والترابيزات، المقاهي على موعد مع موسم الكرة. يقول أدوارد غاليانو في كتابه المهم "كرة القدم بين الشمس والظل"، أن احتقار الكثير من المثقفين المحافظين لكرة القدم، كان يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب. فبورخيس كان يلقي محاضرة في اليوم نفسه، والساعة نفسها التي كان فيها المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978. هناك في المقابل بعض المثقفين اليساريين الذين يزدرون كرة القدم لأنها تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري.

بالنسبة اليّ، كان الأمر مجرد التزام، لم أرغب أبداً في تضييع حصة من "الكورس" المكلف، لكني كنت أتحرّق شوقاً مثل الكثيرين لمتابعة المباراة. ذلك الصمت المطبق على الشوارع، بينما أسير وحيداً إلى "الكورس"، مقاوماً تيارات تجذبني إلى الوراء. كنت ألتهب، أعصابي تحترق، لا أشجع أندية محلية في مصر. لست "أهلاوياً"، وقطعاً لست "زملكاوياً"، لكني منحاز لمباريات المنتخب في البطولات المهمة. تابعت عن كثب مبارياته في البطولة الأفريقية في شباط/فبراير الماضي، نشرتُ في صفحتي في فايسبوك، صورة عصام الحضري بعدما أنقذ أهدافاً كادت تخترق شباكه في مباريات عديدة، قبل أن تمنينا الكاميرون بالهزيمة الثقيلة. حذفتُ صديقاً افتراضياً في فايسبوك تمنى الهزيمة للمنتخب لمجرد أنه يرى أن مصر لا تستحق أن تفرح.

الفرحة.. ما كُنه الفرحة.. هل من حقنا أن نفرح حتى فيما نعاني كبت حريات، ومشكلات هائلة في الوطن؟

إذا كانت الفرحة بالكرة حقاً للشعوب المتقدمة، حتى وهي في أوج نجاحها الاقتصادي والصناعي، فلماذا لا تفرح الشعوب المكلومة في أنظمتها السياسية، أو إخفاقها الاقتصادي؟ لماذا لا نفرح لساعتين أو ثلاث، قبل أن نستقبل فاتورة الكهرباء المرتفعة التالية؟ لماذا لا نهرب سويعات من كل هذا الغمّ المحيط بنا: شباب الأولتراس الذين حُكم عليهم بالسجن في قضية هم بالتأكيد أبرياء منها، وأولئك الذين ذهبوا ليشجعوا فِرقهم فاندلعت اشتباكات بينهم وبين الشرطة وزُجّ بهم في الحبس وهم بالمئات... اليوم ارتفعت أصوات نيابية مطالبة بالإفراج عنهم، متوسلة رأس النظام أن يعيد النظر في أسباب حبسهم، مغتنمة أسباب الفرح لتمرر مطالبها، فلماذا لا نفرح؟

في العام 2014، كنت أقضي فترة إقامة أدبية في سويسرا. انتصر المنتخب السويسري في إحدى مباريات مجموعته الأولى التي لا أتذكرها قطعاً، فخرج السويسريون يهتفون في الشوارع بعد منتصف الليل، ليزلزلوا هدوء بلادهم، مطلقين أبواق السيارات. بعد أسابيع، كانت شباك البرازيل تهتز بسبعة أهداف سجّلها الألمان في آخر مباريات هذه البطولة. كُتّاب ألمان أصدقاء، قالوا لي أنهم ظنوا تلك الأهداف المتتالية مجرد إعادة لهدف أو هدفين، لم يتصوروا ثقل الهزيمة التي تكبدتها البرازيل في تلك الليلة التي لا تنُسي. كنت، في 14 تموز/يوليو 2014، أزور برلين زيارة قصيرة، وفي اليوم نفسه عاد الفريق الألماني بكأس العالم. رأيتُ شعباً بكامله يتدفق في الشوارع ليحتفل بفريقه في كبرى الميادين في العاصمة الألمانية. الفرح ليس حكراً على شعوب دون أخرى، ولا يمكن لأحد أن ينتزع منا حق الفرح.

يقول الناقد الرياضي المصري، حسن المستكاوي، في مقال بعيد بعنوان "ماذا فعلت كرة القدم في الشعوب؟" أنه، عقب فوز ألمانيا على البرتغال فى كأس العالم 2006، وحصول الفريق الألماني على المركز الثالث، احتشد آلاف الألمان هاتفين: "دويتشلاند! دويتشلاند!" (ألمانيا ألمانيا)، وهو هتاف كان يرجّف العالم فى مطلع الثلاثينات مع بدايات الحزب النازي الذي أسسه أدولف هتلر، لكن العالم تابع هذا الهتاف بمزيج من الانبهار والإعجاب.

في حصة الكورس الألماني، كنت أمرّ على شاشة هاتفي المحمول، متابعاً ما يكتبه الرفاق عن المباراة، انفعالاتهم، وتوتراتهم، فانتقلت إلي. مُدرّسة الألمانية حذرتني من تصفح فايسبوك أثناء الشرح، ووعدت بمنحنا نصف ساعة "بريك" لمشاهدة جزء من الماتش. فجأة، اندلعت صيحات الناس من بيوتهم "غووووووووووووول!". هدف مصري سُجّل للتو. انفعلت ملامحي بينما أعود مرة أخرى إلى تصفح الهاتف لأعرف صاحب الهدف وأنا أتصور أنه محمد صلاح.

 
يحكي غاليانو حكاية فريق "دينامو كييف" الأوكراني، الذي تحدى منتخب هتلر في أوج الاحتلال الألماني. اقترف اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي، وكان الألمان قد حذروهم: إذا ربحتم ستموتون. 

عاوزين مننا إيه يا كابتن مدحت؟
كيف يمكن أن تفرح في بلد يئن من الكثير؟ هل هذه فرحة مشروعة؟ صار هتاف "تحيا مصر" معبراً عن توجه سياسي. قائله، بشكل أو بآخر، ربما يقف في صف سلطة لا تحب أن تقف في صف مواطنيها. الأسعار المرتفعة بشكل لا يطاق، الحياة التي صارت صعبة، أسعار الكهرباء، أسعار شحن الهواتف المحمولة، أسعار خدمات المياه، وأسعار الكتب التي ارتفعت نتيجة تعويم الجنيه المصري، وأسعار كل شيء التي ضربت في السماء. كيف يمكن أن نقول "تحيا مصر" لأننا فرحون فعلاً، مبتهجون فعلاً؟ لأن هذا الشيء، الذي يدفع الإدرينالين في عروقنا، الكرة التي حبست الدم في عروقنا، أسعدتنا جميعاً؟ لأننا سنذهب إلى بطولة لم نخط فوق عتبتها منذ التسعينات؟

ابتعدتُ عن الكرة، وعن حب الكرة، وعن متابعة الكرة، لأنها كما يصفها ألبير كامو، لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وهكذا هي الحياة. فإذا بالكرة هذه المرة تمنحنا بهجة عجيبة. حينما انتهى الدرس أخيراً، عدت بسرعة إلى "يوتيوب" لأشاهد ملخص المباراة، الفرص الضائعة، المرات العديدة التي كاد فيها محمد صلاح أن يسجل، هدف الكونغو الذي جاء في لمح البصر مزلزلاً شباك عصام الحضري، هذه الخيبة الكبيرة، حتى سقوط "تريزيجه" على الأرض ليسجل محمد صلاح هدف الخلاص.

قبل المباريات بفترة ليست طويلة، انطلقت حملة إعلانية لإحدى شركات الاتصالات في مصر، أبطالها من المسنين الذين يرددون عبارات مسجّعة: "جيلنا بقاله سنين بيعاني، بيمر بموقف إنساني، حلمنا بس نشوف فرقتنا، توصل كأس العالم تاني".
 

هاجم كثيرون، الإعلان، بلافتات إهانة المسنين، والتهكم على كبر السن، وترهات عديدة من هذا القبيل. كانت الفكرة الرئيسية للإعلان، هي دعوة لاعبي المنتخب أن "يا تلحقونا يا متلحقوناش"، مطالِبة لبلد شاخت روحها. المبدأ الرئيس للإعلان، عبّر عن روح البلد التي نهش اليأس بدنها، وبات يهدد روحها. يقول أحد أبطال الإعلان: "الشيخوخة بتاكل فينا".

عبارات صادقة، على الرغم من الروح التهكمية التي يبثها الإعلان في مجمل رسالته. ربما هذا الصدق هو الذي أثار الكثيرين، وأخرجهم عن شعورهم. شخصياً، أعجبت بالإعلان. وإذا كنتُ انتمي إلى جيل تخطى منتصف العمر، ولم ير فريقه سوى مرة واحدة في صباه مشاركاً في كأس العالم، فإن جيلاً آخر تلى جيلي، ولد في العام 1990، لم ير أبداً فريق بلاده مشاركاً في هذه البطولة، وها هو يقترب من الثلاثين وفريقه يتأهل للمرة الأولى في حياته. للمرة الأولى في حياته، يتمتع جيل كامل بهذا الأدرينالين، ويرى في مناسبة أخرى، غير الثورة، هذا الثلاثي في الشوارع: الأعلام، والأناشيد الوطنية، والشرطة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها