السبت 2017/01/07

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

عن "كاي" التي أضنت توفيق صايغ

السبت 2017/01/07
عن "كاي" التي أضنت توفيق صايغ
حاولت "كاي" العودة اليه، لكنه قاومها رغم تهديدها له بالقتل أو التشويه
increase حجم الخط decrease
في السنوات القليلة الماضية، عاد الشاعر الفلسطيني الراحل، توفيق صايغ الى الواجهة الثقافية، من خلال نشر الدكتور محمود شريح أعماله المجهولة أو غير المنشوره، سواء عن دار نلسن أو عن دار الجمل. توفيق صايغ، الشاعر الذي قال عنه صديقه أنسي الحاج "ضاعت عبقريّته المستهزئة وتاه ألمه الحرّاق تحت عيون نقد صُدم به حتّى الغربة التامّة"، يتبين من خلال أعماله المجهول، إخلاصه للشعر والثقافة ودأبه على تقديم الجديد والمتقن، سواء الترجمة أو الأبحاث او النقد أو الشعر.

وبين عوالمه الثقافية ومشاغله الكثيرة، بقيت علاقته بـ"كاي" من الأمور اللافتة والغامضة والمثيرة للانتباه، وهي التي كتب عنها "القصيدة ك". للوهلة الأولى قد يتخيل القارئ، "ك" بطل رواية كافكا، لكن بعد الاطلاع على جوانب من سيرة صايغ وكتابات الأصدقاء عنه، يتضح أن "كاي" كانت حبيبة صايغ الانكليزية، التي لم نكن نعرف اسمها، والآن أفصح محمود شريح عن اسمها، في مقدمة كتاب "بحر الجليل"(*) وهي كاي شو، صبية أو فنانة انكليزية تعرف إليها العام 1957. وطوال ثلاث سنوات أولع بها، وكانت عذابه النفسي وملهمته الشعرية في آن... كانت تمتلكه وتغار عليه كأنه يعيش في حب شرقي جامح.

يقول الناشر رياض نجيب الريس في كتابه "ثلاثة شعراء وصحافي": كاي كانت الهاجس الذي كان يأخذ توفيق صايغ منا كل يوم جمعة في كيمبردج، ولا يعيده إلينا من لندن إلا ليل الاثنين. وكان يعود متعباً، حتى قضت على وتر الحيوية فيه، فأعطى كل هذا الألم، والكثير من ذلك الشعر. وعندما انتقل إلى لندن أستاذاً في جامعتها، كانت "كاي" بدأت تختفي من حياته، إلا أن عذابه بغرامها تصاعد حتى استوى على وتيرة واحدة من الألم، اعتادها. 

ويقول عيسى بلاطة في كتابه "صخر، وحفنة من تراب" يتضح من هذه المعلومات الضئيلة أن ذلك كان نوعاً غير عادي من الحب. فكاي هي تلك الحبيبة السادية التي تحب أن تمتلك حبيبها. توفيق هو ذلك الحبيب المطيع، وربما المازوشي. ربما كان توفيق مستمتعاً بهذه العلاقة الى حد ما، بحسب بلاطة. لكنه، بالرغم من ذلك، لم يكن سعيداً بهذه العلاقة وثار عليها أخيراً وأنهاها... وقبيل افتراقه عن حبيبته، كتب قصيدته المشهورة "من الأعماق صرخت إليك يا موت" (1960) ثم أحرق رسائل كاي إليه، ثم حاول ان يحرر نفسه من العذاب الناتج عن ذلك عن طريق التعبير المتألم عن تجربة حبه في تلك القصائد التي تضمها مجموعة "ك". ويضيف عيسى بلاطة: "لا بد أن عذابه كان عظيماً إذ اعترف لجبرا في لندن أنه كان يفكر في إحدى ليالي ربيع 1960 بالانتحار. فحاول جبرا جهده اقناع توفيق بالعدول عن مثل هذا العمل الجنوني، ودعاه الى مأدبة (...) حيث كان يأمل إقناعه بعدم الانتحار عن طريق المنطق والحس المدرك. ولا بد أن يكون جهد جبرا قد آتى ثماره فساعد توفيق على التغلب على أزمته وربما ليس على رغبته الخفية في الموت، إذ كتب توفيق صايغ في مقالة غريبة لاحقاً بعنوان "أنا ... توفيق صايغ" متذكراً كاي وأمه: "مرتين، في 1950 وفي 1960، كنت على وشك الانتحار دفعة واحدة، آنذاك اجتزت إحدى أزمتين في حياتي (لا تضاهيهما إلا أزمة الولادة)، في إحداهما أقصيت عن النعيم، وفي الأخرى عن الجحيم..". لقد ظن أن في إمكانه إحلال حب كاي محل حب أمه، لكن تلك الفرصة كانت قد فاتته عندما اكتشف أنهما متصارعان وأنه هو حلبة الصراع...

حاولت كاي العودة اليه، لكنه قاومها رغم تهديدها له بالقتل أو التشويه. إلا أن قلبه لم يسترجع سلامه. ففي القصيدة الثامنة عشرة من مجموعة "ك"، يتذكر كيف كان وَلِهاً بحبّ كاي، وأنه كان مستعداً لإعطائها قلبه ثم يجدها تغدر به:
خلياً كنتُ، 
بريئة أرضي.
أجئت تعيدين عليّ
مأساة بلادي؟
فتحتُ، فتحتُ لك أعماقي
وأعطيتك الشط والتلال
وحملتُ التربة الحية بكف
نبشتها لك من الأقاصي 
والماء بكف..
"القصيدة ك" لم تكن سوى قصيدة عذاباته وحبه العاثر، وهي تجربة أضنته، فجاء الديوان تخليداً له وهجراً. يقول محمود شريح: "التفت (صايغ) الى المرأة بحثاً عن الخلاص فأحب وجاهد وتفانى وأخفق، فجاء غزَلُه مرّاً يصل المحدثين بالغزليين القدامى. (...) خاطب حبيبته كما خاطب أيّوب ربّه...". وكانت قصَّته معها شديدة الضغط عليه بحيث لم يشتدّ إحساسه بقسوة المنفى والحياة في الغربة، إلا عندما بدأت معاناته مع هذه القصَّة، ولم يتحوَّل إيمانه إلى شك صارخ ويأس من الخلاص إلا عندنا تفاقمت هذه المعاناة وتأزمت. فصار لا يملُّ الحديث الميلودرامي عن أحزانه وآلامه. لقد حوَّل صايغ علاقته مع "ك" إلى قصة ميلودرامية، بسبب تكوينه النفسي على ما يبدو. فهو يقول إنّ حبيبته كانت تغويه وتعذبه، وتتقن كلا الفنَّين وتتمتَّع بهما.

صارت عشيقته "كاي" جزءاً من الحداثة العربية... ومن بعدها هجر لندن وعاد إلى بيروت ليصدر مجلة "حوار" التي كانت مأساته الإضافية، فعشق الثقافة لا يقل "ضنىً" عن عشق الحبيبة...


(*) "بحر الجليل" لتوفيق صايغ، أعدها وقدم لها محمود شريح، منشورات الجمل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها