السبت 2017/01/07

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

الفكر الراديكالي لبودريار...على الكتابة أن تترك الوهم يشع(2)

السبت 2017/01/07
الفكر الراديكالي لبودريار...على الكتابة أن تترك الوهم يشع(2)
على الفكر أن يكون استباقياً، استثنائياً(غيتي)
increase حجم الخط decrease
في العام 1994، نشر جان بودريار (1929-2007) كتيباً بنص واحد، عنونه "الفكر الراديكالي"، وقد صدر عن دار "Sens et Tonka". يوطئ الفيلسوف المتنقل بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، نصه، مقتبساً عبارة من عبارات الروائي والشاعر روبرت لويس استفنسون (1850-1849): "لا تعد الرواية عملاً فنياً على أساس تشابهاتها الحتمية مع الحياة، بل انطلاقاً من الاختلافات اللامتقايس، التي تفصلها عنها". على هذا المنوال، يستبدل بودريار الرواية بالفكر، ويشرع في الحديث عنه، والقول في علاقته مع الواقع، الذي لم يعد على وجوده ذاته أو مثلما يصوره المؤمنين به أو كُهانه.
لقد انتهى الواقع بفعل الإصطناع، الذي يكفل استمراريته المضغوطة والمموهة، وذلك، بلا أن يحذو المصطنع حذو الإيديولوجي عبر اخفاء الموجود، بل إنه يستر غير الموجود فعلياً. من هنا، يلح بودريار على الحاجة إلى فكر آخر، متنبهاً إلى الفراغ الحاضر في الواقعي، أي تحت المصطنع، فيُدمغ به، ويعبث بهما. إذ لا ينتج فرضيات ونظريات تبغي التحقق، أو الحصول على شرعيتها من الواقع، بل إنه يدافع عنها كأفكار أو أفخاخ، تؤلفها وتحملها لغةٌ، سمتها الأساس هي الفرح... هنا، حلقة ثانية واخيرة...

مهما كان موضوعها، على الكتابة أن تترك الوهم يشع، وتجعله لغزاً غير قابل للإمساك، لا يمكن القبض عليه من قبل المتخصصين أو سياسيي الواقعية السياسية. هدف الكتابة، أن تتلف موضوعها، أن تثيره، أن تزيله أمام عيونها. إذ تقصد الحسم الجامع، الحسم الشعري بحسب سوسور، أي تشتيت اسم الله العنيف.

إذا كان الفكر يعلن حقيقة شيء ما، فهو، بذلك، يتحداه كي يتحقق. الضجر من الواقع، ينتج عن كونه يتقدم على الفرضيات، التي ينفيها. فهو يستسلم أمام أدنى الإنذارات، ينطوي على شكل من أشكال العنف الأفهومي، وعلامته الفارقة، أنه يذعن إرادياً. الواقع كلبة. على عكس ما يُقال (الواقع هو مَن يقاوم، وعلى هذه المقولة، تتكئ جميع الفرضيات)، الواقع ليس صلباً كثيراً، هو يفقد صلابته تدريجياً، بحيث يبدو أنه خاضع لإنطواء غير منظم.

فأجزاء كاملة من الواقع تنهار-مثلما هي الحال في انهدام باليفيرنا بوتزاتي، حيث أي شق ضئيل يؤدي إلى انفلاق متسلسل-ونجد دائماً رقائق أو مواد متحللة كما في خريطة بورخيس وإقليمه. ذاك، أن الواقع لا يقاوم مفسخيه فحسب، بل يسلب المدافعين عنه. قد تكون على الأرجح طريقته في الإنتقام من هؤلاء، الذين يدعون الإيمان بتغييره: يرد المتحمسون له إلى الرغبة الخاصة بهم. في النتيجة، يبدو أنه أقرب إلى السفنكس (Sphinge) من الكلبة.

بمهارةٍ، ينتقم الواقع من المعترضين عليه أيضاً، موفراً لهم الحق في اعتراضه. عندما تقترب فكرةٌ مغامرة، أو فرضية نقدية، أو كلبية، من صحتها، يشعر أصحابها بالخطر، يشعرون بأنهم مجردين من أسلحتهم. ذاك، أن الواقع غير المكترث يؤكد كلامهم بطريقة أليمة.

هكذا، بمقدورنا أن نقدم فكرة المصطنع، دون الإيمان بها في سرنا، على مسعى أن ينتقم الواقع منها-فالنظرية ليست مجبرة على الإقتناع بنفسها. للأسف، وحدهم المولعون بالواقع يتفاعلون سلبياً، أما هو فلا يبدو أنه يريد تكذيب المصطنع، على العكس: يتيح لكل المصطنعات أن تتحرك فوقه بحرية. فليس الواقع اليوم سوى فاجعة الإصطناع. بالتالي، محامو الواقع (الذين يدافعون عنه بوصفه قيمة أخلاقية أو فضيلة) يؤدون، بشكل أو بآخر، دور هؤلاء، الذين يُطلق عليهم تسمية المولعين بالفاجعة.

لقد كانت فكرة المصطنع سلاحاً أفهومياً لمواجهة الواقع، لكنها سرعان ما جرى سلبها. ليس لأنها نُهبت، أو لأنها عُممت سوقياً، واستحالت مكاناً مشتركاً (وهذا صحيح، لكنه يكاد يكون بلا أثر)، بل لأن الواقع اختلسها، قبض عليها، امتصها، متحاشياً بلاغة الإصطناع. فالمصطنع هو مَا يحقق اليوم استمرارية الواقع، هو مَا يخفي لا الحقيقة، بل عدم وجودها، يعني استمرارية الفراغ.

هناك، تكمن مفارقة كل فكر يحاول تسجيل نفسه ضد الواقع، حيث أن الأخير يسلبه الأفهوم ويحققه. مثلما يسلب أي نقد موجه له. الأحداث، التي لا دلالة لها، تسرق المعنى. تتآلف مع الفرضيات الأكثر غرابة مثل الأجناس الطبيعية والفيروسات، التي تنسجم مع البيئات الأكثر عدائية. وهنا، ثمة شقلبة أيضاً: فلم تعد الفرضيات هي التي تتآلف مع الأحداث، بل الأحداث تنسجم مع النظريات. في كل الأحوال، الأحداث تخدعنا، لأن النظرية، التي تسعى إلى التحقق، ليست نظرية. الفرضية التي تتحقق ليست فرضية. من المرعب أن نرى نظرية تتحق. من المرعب أن نرى فكرة تتطابق مع الواقع. إنه إحتضار الأفهوم: تجلي الواقع بمثابة أفول لأفهومه.

فقدنا تقدم الأفكار على العالم، خسرنا المسافة، التي تسمح للفكرة أن تبقى فكرةً. على الفكر أن يكون استباقياً، استثنائياً، وعلى الهامش-ظل الأحداث المقبلة. بيد أننا اليوم عند نهاية الأحداث. أحياناً، نشعر أنها تتناقص، أنها لا تكون كما يجب أن تكون. لكنها، فعلياً، تجاوزتنا منذ مدة. الفوضى المزيفة للأشياء أسرع منا. انمحى أثر الواقع أمام الإستعجال- إنه تشويه السرعة. إلى ماذا تتحول تباينية الفكر في عالم، هو نفسه متحول على أساس فرضيات مجنونة وهذيان مفبرك سلفاً؟ حتى تأويلها أصبح إشكالياً. لأن، في تتباعها المستعجل، تبتلع الأحداث تأويلها، والأشياء معناها. تصير مثل أجسام سوداء، لا يمكنها أن تعكس أي ضوء. هي ما هي، لا تتأخر أبداً عن نفسها، وتقع دائماً في ما بعد معناها. فالمتأخر هو التأويل، بوصفه صورة إرتجاعية لحدث غير مُتَوَقع.

ماذا نفعل إذاً؟ عندما يوافق كل شيء النموذج التهكمي، النقدي، البديل، الكارثي، الذي نوفره له (يتوافق الشيء مع نموذجه بطريقة تتجاوز الآمال، لأننا، بشكل أو بآخر لا نعتقد به إلى هذا الحد، غير أننا من دون ذلك، لا يمكننا أن نبدعه). حسناً. إنها الجنة، حيث أننا في ما بعد الحُكم الأخير، في اللاموت: الكل دائم. وهنا، ينتهي التهكم، التحدي، التوقع، الضرر، بالإضافة إلى الأمل العنيف، على أبواب الجحيم. فعلياً، الجحيم يبدأ بهذا الشكل، جحيم تحقق كل الأفكار، جحيم الواقع. نفهم، بحسب أدورنو، أن المفاهيم تفضل الإنتحار، أو إغراق نفسها، على أن تصل إلى هنا.

لقد سُلب منا شيء آخر: اللامبالاة. القدرة على اللامبالاة، وهي خاصية الفكر، عكس لعبة الإختلافات، وهي ميزة العالم. فهذه اللامبالاة سرقها منا عالمٌ، كان قد صار لامبالياً، مثلما أن المخالفة كان قد سرقها منا عالم مخالف. حين تحيل الأشياء والأحداث إلى بعضها البعض، وإلى مفهومها غير المتميز، يلتقي تعادل العالم مع لامبالاة الفكر ويلغيها-إنه الضجر. لا وجود للإشتباك، ولا للرهان الخطير. إنه تشارك المياه الميتة.

كم كانت جميلة اللامبالاة في عالم لم يكن مصاباً بها، في عالم مكترث، متشنج، متناقض، تملأه الرهانات والإنفعالات. في لحظة، كانت اللامبالاة بمثابة رهان، بمثابة انفعال، بمثابة تضارب شامل. إذ كان بمقدورها أن تتوقع الصيرورة اللامبالية للعالم، وأن تجعل منها حدثاً. غير أن اليوم، من الصعب أن نكون أكثر بلادة، أكثر لامبالاة من الوقائع نفسها. فعالمنا العملياتي هو عالم بليد، لامبالٍ بنفسه، غير منفعل ومضجر حتى الموت. حيث أن لا فائدة من اللا-انفعال في عالم بلا انفعال، من السفاهة في عالم سفيه. بهذه الطريقة، نصبح أيتام.

ليس السؤال أن ندافع عن الفكر الراديكالي. كل فكرة ندافع عنها، تبدو مذنبة، وكل فكرة لا تدافع عن نفسها بنفسها، تستحق الزوال. بدلاً من ذلك، لا بد من إطاحة كل إتهام باللا-واقعية، باللا-مسؤولية، بالعدمية، باليأس. فالفكر الراديكالي ليس متوتراً البتة-هذا تفسير خاطئ. النقد الإيديولوجي والأخلاقي، المأخوذ بالمعنى والمضمون، المهووس بالغائية السياسية لكل خطاب، لا يكترث بالكتابة، بفعل الكتابة، بشكل اللغة الشعري، التهكمي، التلميحي، باللعب مع المعنى. لا يرى أن المعنى يُحسم هنا، في الشكل، في المادية الشكلية للعبارة. المعنى تعيس دائماً، والتحليل أيضاً، ما دام يولد من نقد غير إيهامي. إلا أن اللغة، على العكس المعنى والتحليل، هي فرحة، حتى لو كانت تتحدث عن عالم بلا خيال، وبلا أمل. ربما، بذلك، يمكننا أن نقدم تعريفاً للفكر الراديكالي: ذكاء بلا أمل، لكن بشكل فرح. النقاد، وهم تعساء بطبيعتهم،  يختارون الأفكار كميدان تعارك. لا يرون أن في حال كان الخطاب يسعى باستمرار إلى توليد معنى، فاللغة والكتابة يرتكزان أساساً على الإيهام، فهما إيهام المعنى الحيّ، وهما حسم تعاسة المعنى بفرح اللغة. وهذا الفعل سياسي، ومعبور بالسياسة، لأنه يتمم صاحبه، ذاك، الذي يكتب.

الجميع يمتلك أفكاراً، وأكثر مما يجب. لكن، ما يهم في كل ذلك، هو التفرد الشعري في التحليل. بهذا فقط، بهذا المسلاط، بروحنة اللغة هذه، يمكن لفعل الكتابة أن يتبرر، وليس على أساس موضوعية نقد الأفكار، المتسمة بالتعاسة. لا يمكن حل تناقض الأفكار سوى في اللغة ذاتها، في طاقة وفرح اللغة. هكذا، مثل الوحدة، أو الحزن، في رسومات إدوارد هوبر، بحيث يحصل التغيير بحسب النوعية اللازمنية للضوء، الذي يجيء من مكان آخر، والذي يهب المشهد معنى تصويري آخر، وحِدّة تصيّر الوحدة غير واقعية على إثرها. "لا أرسم الحزن أو الوحدة، أفتش عن رسم الضوء على هذا الجدار"، يقول هوبر.

في كل الأحوال، يلزمنا تحليل باعث على الأسى في لغة فرحة أكثر من تحليل متفائل في لغة مؤسفة بضجرها ومفقدة للعزيمة ببلادتها، كما هي الحال اليوم. فالضجر الشكلي، الذي يفرزه فكر القيّم المثالي، أو فكر الثقافة الإرادوي، هو بمثابة إشارة سرية إلى تعاسته، لا حيال علاقته مع العالم، بل مع خطابه. على هذا النحو، يتألف الفكر اليائس لدى هؤلاء، الذين لا يتوقفون عن الكلام على تجاوز وتغيير العالم، بيد أنهم غير قادرين على تغيير هيئة لغتهم الخاصة.

لا يختلف الفكر الراديكالي عن الاستخدام الجذري للغة. بالتالي، يغاير اختزال العالم بمعنى الواقع الموضوعي وبفك رمزيته. فهو لا يفك الرموز. إنه يلعن، يصفح المفاهيم والأفكار، مثلما تفعل اللغة الشعرية حيال الكلمات. وبترابطه القابل للإنعكاس، لا يهتم ذلك الفكر بالمعنى، بل بالإيهام المؤسس له. فاللغة تهتم بالإيهام، كحيلة، ومن خلاله، تهتم بإيهام العالم كفخ متناهٍ، كإثارة للفكر، كسلب لكل القدرات الذهنية. فكل حامل للمعنى، هو، في الوقت نفسه، ناقل للوهم واللامعنى. اللغة تتواطأ لاإرادياً مع الدلالة، مع شكلها، وتحيلها إلى الوهم الروحي والمادي للأصوات ووتيرتها، إلى تفرق المعنى في حدث اللغة. تماماً مثلما هي وظائف العضلات أثناء الرقص، أو وظيفة إعادة الإنتاج في الألعاب الإيروتيكية.

هذا العشق للحيلة، العشق للخيال، هو بمثابة الفرح المثير، الذي ينتج عن دحر بُرج المعنى، والكشف عن إيهام العالم، كوظيفة لغزية، وعن خداع العالم، باعتباره سراً. كل ذلك، بإماطة اللثام عن احتياله-محتاله بطريقة متوقعة، وليس على أساس معناه. هذا العشق يحمل إلى الاستعمال الحر والروحي للغة، في لعبة الكتابة الروحية، وهو لا ينتهي سوى في استخدام اللغة بغائية محددة، هي التواصل على الأغلب.

في كل حال، كي تتحدث عن الخيال، على اللغة أن تكون تخييلية، وكي تتحدث عن الإثارة، عليها أن تكون مثيرة. وعندما تتحدث عن الواقع، ليس باستطاعتها أن تكون واقعية، لأنها لم تكن يوماً على هذا الوضع. وحتى عندما تشير إلى الأشياء، تفعل ذلك بطرق غير واقعية، اهليلجية، ساخرة. فموضوعيتها، وحقيقتها ضرب من الإستعارة، وهذا ما يثير استياء القائلين باليقينية، ومعلميها. ففي هذه الجهة، تبدو اللغة، ولو في لاوعيها، حمالة فكر راديكالي، على أساسه تصبح سمة مميزة بالنسبة للعالم، مثل انكساف ومصدر لذة. حتى اختلاط اللغات في برج بابل، كان بمثابة ماكينة ضخمة لدفع الصنف البشري إلى الوهم، بمثابة مصدر للا-تواصل ونهاية اللغة العالمية. وهو لم يظهر كعقاب، لكن، كهبة إلهية.

شفّروا، لا تفكوا الشيفرات. شغلوا خيالكم. افعلوا ما بوسع خيالكم كي تصنعوا حدثاً. حولوا الواضح إلى لغز، والبائن إلى مبهم، إلى غير مقروء كالحدث نفسه.

اعملوا على كل الأحداث لكي تصبح غير معقولة. أكشفوا عن مرئية العالم المزيفة لتزرعوها بالغلبطة الإرهابية، بإنباتات أو فيروسات الخيال الراديكالي، أي اللاخيال الراديكالي للواقع. فكر فيروسي، مضر، مفسد للمعنى، متواطئ مع الإدراك الإيروتيكي لاضطراب الواقع.

إمحوا في ذواتكم كل أثر من آثار المؤامرة الفكرية. اختلسوا ملف الواقع لتمحوا الخلاصات منه. لكن، فعلياً، الواقع يحرض نفسه على التناقض، على الإنكار، على الإنفقاد من خلال واقعنا القليل. عن هذا، ينم الشعور الداخلي بأن كل هذه الشؤون-العالم، الفكر، اللغة- قد جاؤوا من مكان آخر، ويمكن أن يختفوا بسرور. ذلك، أن العالم لا يفتش عن الإنواجد، أو المواظبة على الوجود. على العكس، يبحث عن سبيل فراره من الواقع. يبحث، عبر الفكر، عما يمكنه من الإنفقاد.

القاعدة الحتمية للتبادل الرمزي، هي أن تردوا ما جرى إعطاءه لكم. وليس القليل منه، بل أكثر منه. القاعدة الحتمية للفكر، هي أن نعيد العالم إلى حاله الأولية، يوم قُدم لنا، أي أن نعيده مبهماً، وغير معقول كثيراً، ولغزياً قليلاً إذا أمكن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها