السبت 2017/01/28

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

المكان في الذاكرة.. عندما يتداعى في الواقع

السبت 2017/01/28
المكان في الذاكرة.. عندما يتداعى في الواقع
الحنين في وثائقي مي عبدالساتر "شاي باللبن"
increase حجم الخط decrease
لا يبدو هيّنًا، أن تتجاوز ذاكرةُ شخص ما، صورةَ المكان الذي ولد وعاش فيه. بالأخص إذا كان هذا المكان قد تعرض للدمار، بسبب الحرب. لتصبح علاقة البعض بالمكان؛ علاقة مع ماضي المكان المرتبط بالطبع بماضيهم الشخصي. حتى الماضي الذي يتشكل بعد دمار المكان، ومحوه، وبداية تشكل تفاصيله وتكوينه من جديد. إلا أن الذاكرة تحاول أن تتخطى هذه المرحلة، محتفظة فقط بآثارها، وارتباطها مع صورة المكان قبلها. 

هذا ما نلمسه عند مشاهدتنا للفيلم الوثائقي القصير "شاي باللبن" للمخرجة اللبنانية ميّ عبد الساتر، والذي عرض ضمن فعالية نظمها مركز "مجاورة الخليفة" في القاهرة تحت عنوان "حكايات المدينة من خلال السينما والأدب".

يتحدث الفيلم عن ذكريات والد ميّ "مخرجة الفيلم" في بيروت، في فترة ما قبل الحرب الأهلية، إضافة إلى ذكرياته في مدينة الاسكندرية التي لجأ إليها إبان الحرب وعاش فيها قرابة الأربع سنوات.

لكن يبدو أن ذاكرة الأب تستند في بوحها على مشاعر الفقد، التي بقيت آثارها ترافقه طيلة حياته، إضافة إلى هاجس الخوف من تكرار حالة الفقد في المستقبل. تطرح الإبنة سؤالاً على أبيها؛ هل كان من السهل عليك قرار ترك المنزل؟ ليجيب الأب: لا بالطبع .. من الصعب على الإنسان قرار ترك المنزل الذي ولد وعاش فيه، والذي تشكلت فيه ذكرياته، هو وعائلته. ليعقب ذلك السؤال مقطع فيديو للانفجار الرويس في 15 آب 2013 في الضاحية الجنوبية لبيروت. فتضطر العائلة التي كان تقطن في تلك المنطقة من مغادرة المكان اثر حدوث الانفجار. يعود الأب في ذاكرته إلى اللحظة التي بدأت علاقته مع مدينة بيروت، إنها لحظة عودة والده إلى لبنان - وكان قد هاجر أواخر العام 1952 إلى البرازيل للعمل هناك، وقد ولد العام 1953 وأبوه غير موجود - والتقاه في مرفأ بيروت العام 1961. وعند هذه اللحظة تشكلت بداية علاقته مع المكان باستعادة شخص، كان بالنسبة للابن مفقوداً.

تنقلنا كاميرا الفيلم من مرفأ بيروت، إلى شوارع الاسكندرية، التي يزورها والد ميّ بعد أربعين عاماً على مغادرته لها. ورغم سعادته لاستعادة ذكرياته في المدينة أيام شبابه، ألا أن الشعور بالفقد سيكون حاضرًا أيضًا؛ عندما يتساءل عن مصير الناس الذي كانت تربطه بهم صداقات وعلاقات إنسانية، يزور أيضاً مكان المقهى الذي شرب به أول مرة "شاي باللّبن" (شاي بالحليب) وهو "مقهى استيريا"، كان مغلقا منذ زمن.

*** 

مدينة الاسكندرية أيضاً تغيّرت، لكن ليس نتيجة الحرب، بل بسبب التحولات التي طرأت على المجتمع، وانعكاسها في شخصية المدينة. فالشاعر والكاتب المصري علاء خالد، المشارك ضمن الفعالية للحديث عن الاسكندرية من خلال الأدب والكتابة، واستناداً لتجربته في مجلة "أمكنة" التي يحررها؛ يقول إنه منذ فترة التسعينات حتى هذه اللحظة، حدثت تحولات كثيرة في المدينة كان لها الأثر في القيم الانسانية.

يبيّن علاء خالد من خلال حديثه عن فكرة الرصد لذلك التحوّل الذي يطرأ على المدينة؛ بأن "هناك دائماً حكاية صغيرة، موازية للحكاية الكبيرة"، فإن حكايات الأشخاص "العاديين" المعجونة بتفاصيل الحياة اليومية وتفاصيله، قد تكون مهمشة بفعل هيمنة الحكاية الكبيرة "الحدث السياسي وتداعياته" بفترة زمنية ما. كما يحاول علاء خالد أن يعطي لفكرة الهامش بُعدًا أدق، وخارج إطاره السياسي/الثقافي، اذ يوجد دائماً أشخاص يعيشون على الهامش، والهامش هنا ليس فقط المسيّس، بل أيضاً الهامش الإنساني، ويضيف بأن هناك الإنسان المستبعد (وهو المستبعد بخياره وإرادته)، والمستبعد أبعد من الهامش حسب تعبيره.

أنها محاولة لتوسيع وفتح أفق جديد لفهم الواقع الذي نعيش فيه من خلال توثيق هذه العلاقة بين الإنسان والمكان، فثقاقة المكان ما زالت منطقة ملغومة وغامضة، ومفتوحة على منظور مغاير عن المنظور السياسي المهيمن. لهذا كان الدافع عند علاء خالد والفنانة الفوتوغرافية المصرية سلوى رشاد في تأسيس مجلة "أمكنة" التي ظهرت في عددها الأول العام 1999. يقول علاء خالد "في فترة التسعينات لم يكن في مصر سوى مجلات عن الشعر والأدب والنقد"، لهذا كان الحاجة ملحة لمجلة تعنى بثقافة المكان بوصفه يفتح الذاكرة ليس فقط على زمن محدد، بل يمتد إلى زمن مفتوح على حكايات وتأملات كثيرة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها