الأحد 2017/01/22

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

محمد عبده في الحجاز

الأحد 2017/01/22
increase حجم الخط decrease
في مذكراته غير المنشورة، يسجل علي أفندي سعودي، عضو بعثة المحمل المصرية إلى الحجاز في العقد الأول من القرن العشرين، دهشته حين وجد صورة للشيخ محمد عبده معلقة في منزل أحد أقربائه في مكة. كانت الصورة التي أضحت أيقونة للشيخ الإصلاحي، ولمشروعة الحداثي، حتى اليوم، من تصوير سعودي نفسه، والذي غالباً ما شعر بالإطراء لرؤيتها معلقة هناك، بالرغم من التحريم المفروض على التصوير الفوتوغرافي، ولتداول كتابات عبده في الحجاز حينها. يسرد سعودي، سلسلة طويلة من التهديدات والاعتداءات المتحققة التي تعرض لها، والمحاججات الفقهية التي خاضها، بسبب معدات التصوير التي كان يحملها في طريقه من القاهرة إلى الحجاز، وكادت تقتلته أو تؤدي به الى الاعتقال بتهمة التجسس أكثر من مرة. 

تقدم سردية سعودي، التي يختلط فيها الفقهي بالسياسي، والفني بالتقني، تلخيصاً للأطروحات الرئيسة التي يقدمها كتاب ستيفن شيهي، "الصورة العربية: التاريخ الإجتماعي للبورتريه الفوتوغرافي العربي 1860- 1910"، الصادر بالإنكليزية. يقارب التهديد الذي جسدته صورة الشيخ والصور بشكل عام، كما أنه يرتبط بأفكار عبده ومشروعه النهضاوي، والتعبير عن تمرد البنى التقليدية للسلطة في الحجاز ضد مشاريع التحديث العثمانية والنفوذ السياسي المصري. ويكشف أيضاً الطبيعة المعقدة للفوتوغرافيا نفسها، والأدوار الإجتماعية والسياسية التي لعبتها، مطلع عصر النهضة العربية، بوصفها أول الظواهر البصرية المعولمة للحداثة، وأكثرها قياسية.

ينطلق كتاب شيهي من الحجاز أيضاً، وبالتحديد من البعثة العلمية المصرية للأراضي المقدسة، العام 1861، والتي لم يكتف مديرها، محمد صادق بيه، بالإشراف على أعمال المسح الهندسي لأراضي الحجاز والطرق المؤدية إليها وتدوينها، بل قدم بنفسه أول تسجيل فوتوغرافي على الإطلاق، للفضاء العمراني وطوبوغرافيا مكة والمدينة المنورة، وتصوير مناسك الحج، والقبائل الحجازية والوافدين من الحجاج. ما تكشفه الصور التي التقطها صادق بيه، هو البنية الثقافية والإيديولوجية التي أنطلق منها مشروع التحديث المصري، بريادة محمد علي، وكانت الفوتوغرافيا لاحقاً من ضمن أدواته، وظفها لإنتاج طرائق جديدة للرؤية، وتنظيم، وقياس، وتصنيف العالم المادي والمعنوي.

وخلافاً لمعظم الدراسات الأكاديمية التي تناولت تاريخ الفوتوغرافيا في المنطقة العربية، والتي اتبعت منهجاً ما بعد كولونيالي، معنياً بتفكيك التمثلات الاستشراقية عن المنطقة في التصوير الغربي، فإن كتاب شيهي يركز تحليله على إنتاج المصورين العرب أنفسهم، في فترة صعود مشروع التحديث العثماني من جهة وتطور إيديولوجيا النهضة العربية من جهة أخرى. لا ينسب شيهي للصدفة وحدها بدء السلطان محمود الثاني مشروعة التحديثي، المتضمن في فرمانات الإصلاحات القانونية، "التنظيمات"، في العام 1839، أي العام نفسه الذي أعلن فيه الفرنسي، لويس داجير، المعروف بأبي التصوير الفوتوغرافي، عن أول طريقة للتصوير الشمسي على الألواح المفضضة المعالجة باليود. فالفوتوغرافيا التي استخدمها، متمثلة في صور السلطان المعلقة في الجهات والإدارات الحكومية والعسكرية في أنحاء العالم العثماني، لفرض هيمنة إيديولوجية للسلطة وتجسيدها بصرياً، وظّفت أيضاً في أنظمة السجون والشرطة والبنوك وغيرها، كواحدة من أدوات مشروع النهضة العثمانية، مع غيرها من عمليات الحداثة المؤسسية ومنطق الدولة الرأسمالية الصاعد حينها، بغية خلق نظام جديد للحقيقة والحواس والضبط.

ينتقل كتاب شيهي من تحليله لدور الفوتوغرافيا في المشروع الحداثي العثماني، إلى تمثلاتها في مشروع النهضة العربية، ويفحص عشرات صور البورتريه لشخصيات عامة، ولشخصيات غير معروفة، مستخلصاً من تحليلها أن القياسية والتكرارية والثبات التي تميزت بها زوايا الإلتقاط، والنسب البصرية للصور، وأزياء الأفراد وأوضاعهم، وخلفياتهم المادية في مكان التصوير، تعكس تنميطات إيديولوجيا النهضة العربية الحداثية، وعلاقات إجتماعية بعينها، يقف المصور وموضوعه في وسط شبكاتها وتقاطعاتها. فالأزياء الأوروبية التي دُمجت مع غطاء الرأس التركي في كثير من الأحيان، عكست تبنياً لقيم الحضارة الغربية، لكنها تمسكت، في الوقت نفسه، بمواطنة عثمانية ضمنت لأصحاب الملل والقوميات المختلفة حقوقاً متساوية بعد إقرار "التنظيمات". فيما عكست الملابس التقليدية العربية، طوراً آخر، أو طبقة أخرى من مشروع النهضة، في استلهامها لمفهوم القومية العربية بعد تعثر مشروع القومية العثمانية بتتريكه.

تظهر الصورة المكررة والمنمطة لأبناء طبقة الأفندية، المصرية والشامية، والتي يمسك أفرادها كتباً أو أقلاماً، ويتكئون على أثاث أوروبي الطراز، ليعكس إيديولوجيا الحداثة المعرفية لتلك الطبقة، ومشروعها النهضوي المتمحور حول العلم. لكن بينما تؤكد تلك البورتريهات الشخصية والعائلية، مفاهيم الفردية وبنية الأسرة النواتية والأدوار الجندرية لأفرادها، فإن الثبات ونمطية صور طلبة المدارس، وجنود الجيش، وموظفي الدولة، وتراتبياتها الداخلية، والتي أُنتجت بشكل واسع ومنهجي، تؤكد في المقابل على دور مؤسسات الدولة الحديثة، المدرسة والجيش والإدارة المدنية، في صياغة وإنتاج أفراد منمطين، يمكن إحلالهم واستبدالهم بسهوله.

يتجاوز الشيهي، عملية إنتاج الصور الفوتوغرافية، إلى العمليات الإجتماعية المتضمنة في تداولها وعرضها وتوزيعها والكتابة عنها. يتناول الكتاب عدداً من النصوص العربية التي اهتمت بموضوع التصوير الفوتوغرافي، والتي تكشف مرة أخرى عن قيم التحديث النهضوية والتي لا تكتفي بطرح التصوير كمنجز علمي ومعرفي وممارسة تقنية من نتاج المنهج المنطقي والعقلاني للحداثة، لكنها تمتد أيضاً لتناول الصورة بوصفها موضوعاً جمالياً، مُسديةً النصائح للقرّاء عن المكان الأفضل لوضع الصور في منازلهم وترتيبها وتزيينها بها. أو ربما بصيغة أخرى، يمكننا القول تنظيم عالمهم المادي حول تلك الصور وبها، بحسب ذائقة ونسق جمالي "متحضر".

ويفحص الكتاب عدداً آخر من النصوص المدونة في الصور نفسها، أو في الجهة الأخرى منها، والتي تحمل في معظمها إهداءات من أصحابها أو رسائل إلى متلقيها. تقودنا تلك النصوص إلى فهم الدور الذي لعبته عملية تدوير الصورة الفوتوغرافية وتبادلها، في ربط الشبكات الإجتماعية الطبقية، وخلق نموذج من "الصداقة الجديدة" عبر الحدود بين الفئات البورجوازية الصاعدة في العواصم العربية، وفي ممارسة النفوذ والإنتشار الشخصي والسياسي، وفي تقريب المسافات والفواصل.

تبدو صورة الشيخ محمد عبده، التي بدأ بها المقال، نموذجاً مثالياً لعمليات تدوير الصورة الفوتوغرافية وحركتها. فرغم أنه من الصعب التيقن من الطريقة التي وصلت بها الصورة إلى حائط البيت المكي، وإلى يد صاحبه، فإن وجودها هناك يكثف علاقات الواقع السياسي والإجتماعي للمنطقة العربية في عصر النهضة. تظهر صورة الشيخ، متضمنة ولاء أصحابها لمشروعه التجديدي، ومقاومة لفتاوى التحريم الفقهية، وقافزة على منع كتبه، ومتخطية الحدود السياسية، واختلافات الأنظمة الحاكمة، مقربة المسافة بين موضوع الصورة ومقتنيها، راسمة صورة لعصر طموح من حركة الأفكار وصراعاتها. لا يكتفي كتاب الشيهي بعرض ذلك العصر كماضٍ، ولا بدفعنا إلى التساؤل عما آل إليه مشروع النهضة العربية، بل يمنحنا أيضاً أدواتية تحليلية صالحة لاستكشاف الحاضر، وفحص عمليات إنتاج الصورة، تدويرها، وحركتها، وعلاقات السلطة والإيديولوجيا المتضمنة داخلها.  
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها