السبت 2017/01/21

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

مسرح "البيكاديللي": فيروز والثريا الكريستال

السبت 2017/01/21
increase حجم الخط decrease
تفقّد وزير الثقافة غطاس خوري مؤخّرا مسرح قصر البيكاديللي في شارع الحمرا، وجال في أرجائه، ووصفه بـ"جوهرة المسارح"، وقال: "هذا المسرح الذي استقبل أهم المسرحيات والفنانين أمثال السيدة فيروز وعائلة الرحباني، لا بد من اعادة رونقه بالتعاون مع هيئة ضمان الودائع، لتجديده وافتتاحه، فيصير منارة في الشرق، وتعود بيروت تتألق ثقافيا وحضاريا لاسترجاع الزمن الجميل".

كيف وُلد هذا المسرح، وبماذا تميّز؟ كان المسرح جزءاً من "مركز البيكاديللي"، وكان هذا المركز بحسب إعلان صحافي في "ملحق النهار" يعود إلى عام 1966 "شركة مساهمة لبنانية رأس مالها مليونان وخمسمائة ألف ليرة، مدفوع بكامله". حمل هذا الإعلان صورة لمجسّم المركز، وجاء في التعريف: "البناء الفخم المشيّد في أفضل مركز تجاري في شارع الحمراء، أشرف على هندسته السيد جان سميشون مهندس مطار أورلي في باريس. يزيّن مداخله الرخام وواجهته الألمونيوم، وهو مجهّز بكامله بآلات التبريد والتدفئة المركزية. يشمل محلات تجارية ومكاتب من الدرجة الممتازة: صالة سينما تتسع لثمانمئة مقعد، حلبة للتزلّج على الجليد، بولنغ وسائر أنواع التسلية، حديقة أطفال. في الطبقات الأرضية صالة شاي وسناك بار، في الطبقة السابعة مطعم بار يشرف على المدينة كلها، في الطبقتين الثالثة والرابعة تحت الأرض كاراج مساحته أربعة آلاف وخمس مئة متر مربّع. عدد وافر من المصاعد الكهربائية، منها مصاعد مخصّصة لنقل البضائع".

نافس "مركز البيكاديللي" مركزاً مجاورا له، هو "مركز ستراند التجاري". نقع على إعلان نُشر في الفترة نفسها في مجلّة "الحوادث" يصف هذا المركز بأسلوب مشابه: "في أجمل بقعة من شارع الحمراء الكبير، المركز التجاري الذي يؤمّه كل لبناني ليجد فيه سينما، مطعماً، سناك بار، فندقاً، شققاً، مخازن واسعة...". تفوّق "مركز بيكاديللي" سريعا بأناقته، وبات مسرحه "جوهرة" الحمرا. توقّف محمد سويد في كتابه "يا فؤادي" أمام هذه الصالة في العام 1996، مستعيداً ماضيها، وكتب في وصفها: "تصميمها الفاخر على أيدي المهندسين وليم صيدناوي والفرنسي روجيه كاشار كان مستلهما من قاعة للأوبرا في البرتغال، وإذا ارتؤي  اقتباس اسمها من "بيكاديللي سكوير" في لندن، فشهرتها اليوم معلّقة على الثريّا المتدليّة من سقفها التي لا يوجد مثيل لها في مدينة مكّة، وقد ساهمت الحكومة اللبنانية في المساعدة على الإسراع في تجهيزها وإحضارها من تشيكوسلوفاكيا، حيث تمّ تركيبها قطعة قطعة من الكريستال البوهيمي. اسم انكليزي، ديكور برتغالي، لمسات مهندس فرنسي، وإنارة جزئية من تشيكوسلوفاكيا. تلك مواصفات كافية لجعل البيكاديللي صرحاً متعدّد العوالم، مرجعه مشاهدات عاد بها مؤسّسو الصالة من رحلات عمل واستجمام في الخارج".  

افتتح قصر البيكاديللي نشاطه في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر بـ"فرقة أوبريت نمساوية تابعة لأوبرا فيينا" كما تقول الإعلانات، ثم انتقل إلى العروض السينمائية، وعرض "الدكتور جيفاغو، من إخراج البريطاني دافيد ليفين، وتمثيل عمر الشريف وجولي كريستي. احتلّت صورتان من هذا الفيلم غلاف "ملحق النهار"، وجاء في التعليق: "مشهدان من فيلم الدكتور جيفاغو الذي يُعرض في قصر البيكاديللي في الحمراء وتقوم بأدواره طائفة من الممثلين، والقصة لمؤلفها بوريس باسترناك تصور فترة من حياة الشقاء التي عاشتها روسيا الثائرة. فهل قطعت روسيا اليوم، وهي تحتفل بعيد ثورتها الخمسين، هذه الفترة؟". وكتبت "الحوادث": "جائزة نوبل +11  مليون دولار + برج بابل + 18 ألف كيلومتر في أنحاء العالم". بعد "الدكتور جيفاكو"، ختم قصر البيكاديللي عام 1966 بعرض فيلم "باريس هل تحترق" من إخراج الفرنسي رينيه كليمان، وتمثيل جان بول بيلموندو، شارل بواييه، ولسلي كارون. وأعلن عن استقبال فيروز والأخوين رحباني في مسرحية "هالك والملك"، مطلع العام التالي.

 بين 1957 و1966، غنت فيروز في لبنان وسوريا والأردن والكويت، كما أحيت مجموعة من الحفلات في أميركا اللاتينية وبريطانيا، والغريب أنها لم تظهر على المسرح في بيروت طوال هذه السنوات إلا في مناسبتين: كانت المناسبة الأولى تكريم الأخطل الصغير في قاعة الأونيسكو في 1961، وكانت الثانية تكريم الجيش في عرض "يوم الوفاء" على مسرح سينما الكابيتول في نهاية العام 1962. عُرضت مسرحية "هالة والملك" من 9 إلى 15 كانون الثاني/يناير، وشكّلت منعطفا أساسيا في مسيرة فيروز والأخوين رحباني. كتب القاص محمد عيتاني في جريدة "النداء": "ثم يأتي صوت فيروز. يخرج المُشاهد من "هالة والملك" مسحورا، ثملا، كوالد هالة، لكن اكثر وعيا على الجمال، وأشد اعتباراً بواقع الشعب، وأعمق تحسسا بتلك الحقيقة الكبرى. تتحرك المسرحية باستمرار على تخوم وفي صميم الخرافة والأسطورة وشاعرية الحياة ومآسيها، عبر ألف معنى عميق سابح على غوارب النغم، ثم يأتي صوت فيروز. قال بعض النقاد إن الناس تذهب لتسمع فيروز. وأين هو المأخذ، طالما أن المسرح كله يعيش في وهج صوتها ويتراقص على نبراته؟ وطالما أن عبقرية الرحبانيين تسري في سريان النسغ في نضرة الأزهار؟ ولذلك يصوغ لها الرحبانيان الأغاني الملهمة، الرائعة الجمال".

حقّقت هذه التجربة نجاحا كبيرا، وأُعلن عن تمديد عروضها في حفل أقامه في هذه المناسبة مستثمرو قصر البيكاديللي محمود ماميش والأخوان هاشم وخالد عيتاني، وجاء هذا الإحتفال ليعلن انتقال المسرح الرحباني إلى المدينة.

واصل القصر نشاطه، غير أن فيروز غابت عنه في العام التالي، وعادت في شباط/فبراير 1969 لتلعب دور بائعة بندورة في مسرحية "الشخص". فاجأت هذه المسرحية الجمهور، كما فاجأت الإعلاميين، وبدت جديدة تماما من حيث الموضوع والحوارات والإخراج. تتابعت العروض على مدى ثمانية أسابيع متواصلة، واستقطبت اهتماما صحافيا قلّ نظيره، معلنة انتقال المسرح الرحباني إلى قلب العاصمة اللبنانية. تعددت الآراء في تقييم هذا العمل، وكانت أغلبها إيجابية بشكل كبير. رأى البعض فيها إعلاناً لدستور "المسرح الإنتقادي السياسي والإجتماعي"، واعتبر أنها رسمت لفيروز "شخصية جديدة أحبها الناس وأقبل عليها ورسخ فيها"، وبات الكل يترقب اطلالتها المسرحية التالية. في شباط/فبراير 1970، عادت فيروز إلى قصر البيكاديللي للمرة الثالثة لتمثل دور "هيفا" في مسرحية جديدة بعنوان "يعيش يعيش".

تبدأ المسرحية بانقلاب جديد في امبراطورية تُدعى "ميدا". يهرب الإمبراطور المخلوع ويلجأ إلى دكان تديره هيفا متخفياً تحت قناع شخص بسيط اسمه برهوم، ويوهم الجميع بأنه مطلوب من الشرطة بسبب ضربه لزوجته وحماته. تعيش الإمبراطورية سلسلة من الاضطرابات، وتنتهي بانقلاب على الانقلاب، ويُعيّن برهوم إمبراطورا جديدا، ويأمر بالبحث عن الفارين الجدد في الدكان الذي آواه.

نجحت "يعيش يعيش" نجاحاً فاق نجاح "الشخص"، ومُدّدت عروضها حتى منتصف نيسان، وكانت حديث البلد طوال مدة عرضها. بعدها، أعاد الأخوان رحباني عرض "الشخص" لبضعة أيام، وظهرت بائعة البندورة من جديد وهي ترتدي ثوباً ارتدته هيفا في "يعيش يعيش". بعد "يعيش يعيش"، ثم "الشخص" من جديد، قدّم الأخوان رحباني في العام نفسه "صح النوم"، إلا أن هذه المسرحية لم تحصد النشاط المنتظر. بدأت عروض المسرحية مساء الحادي عشر من تشرين الثاني، وانتهت عروضها في السادس من كانون الأول، قبل أن تكمل الشهر الواحد. غابت فيروز عن قصر البيكاديللي في العام 1971، وقدّمت "ناس من ورق" في دمشق، ثم جالت في أميركا حيث حصدت نجاحا منقطع النظير، وعادت متوّجة في نهاية تشرين الأول إلى بيروت حيث فُتح صالون الشرف لاستقبالها بحضور رسمي من وزارة الإعلام ووزارة السياحة، وشرعت في الاستعداد لتدشين عروض المسرحية الجديدة في 15 شباط-فبراير، وفقا للتقليد المتبع.

قبل بدء هذه العروض، استقبل قصر البيكاديللي النجمة المصرية-الايطالية داليدا، في سهرتين غنائيتين أقيمتا يومي 8 و 9 كانون الثاني-يناير، وتجدّد هذا اللقاء في السنوات التالية، وتوقّف عند اندلاع "حرب السنتين" التي قضت على هذا "الزمن الجميل" الذي نحنّ إليه اليوم.
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها