الإثنين 2017/01/16

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

أحسن الدمج في ملّة الإفرنج

الإثنين 2017/01/16
أحسن الدمج في ملّة الإفرنج
التسول في ألمانيا هواية، وربما فن، وليس مهنةّ للعيش(غيتي)
increase حجم الخط decrease
سألتُ صديقي الممثل السوري عن ملّة زميلٍ له في ألمانيا، فاسمه محايد، وسؤال الملة أول سؤالٍ يسأله السوري هذه الأيام جرياً على عقيدة النظام في علوم الطرح والضرب والتقسيم الوطني، فمن شابه مَلِكه ما ظلم. معظم أسماء أهل الأرياف السورية مما حمِّد وعبّد، أما أهل المدن فأسماؤهم أقلُّ صراحة في الإنباء عن دين صاحبه.

كان زميل صاحبي الذي سألت عن اسمه، قد وضع حلقة مثل خزامة البعير في خنّابة أنفه، وقرطاً في أذنه، وتقدم في اللغة وأصدر كتابا، وصار نجما في ألمانيا، فقال: هو منّا يا أبا شريك، لكنه حسن الاندماج، ثم أردف ضاحكاً: لقد صبأ.

وسألني عن درجة اندماجي الألماني، فقلت: هو أحسن بكثير من اندماجي في سوريا القرداحية، وكانت قد أتتني دعوة من صديق أزرق الصداقة، على الفايسبوك، والصداقات الزرقاء لا يعتدُّ بها، ليس فيها خبز ولا ملح، ولا صواريخ مضادة للطائرات، أو للسائرات، والخبز والملح كانا مغشوشين بالتراب وذرات الصخر والسارين، الدعوة هي للعودة على سوريا بعد أن تحرّرت حلب من بأس الجماعات المسلحة التكفيرية، فقلت في نفسي: والله لو وضعوا زحل في يميني وعطارد في يساري على أن أعود إلى الدمج في الجمهورية القرداحية ما عدت، أو أهلك دونه.
أنا سيىء الاندماج، ولا أطمح سوى لحسن الختام، وكثيراً ما أنصح النازحين والنازفين حولي، وأوصيهم بوصايا بسيطة وسهلة، مثل احترام القانون الألماني، والآداب الألمانية، كتجنب مزاحمة الألماني في الطرق، فإذا رأيتَ ألمانياً يا أخا النزوح، في طريق ضيق، أو زحمة، فتفسّح له يفسح الله لك، على نقيض ما كان يوصى به في عهد المتوكل، في معاملة أهل الذمة، فهذا ما يسرُّ الألماني، بل إني كثيراً ما أفسح الطريق وأنا أؤدي حركة مسرحية، هي الحركة التي يؤديها الممثل أو المايسترو على المسرح بعد أن يؤدي فقرته أو قطعته الموسيقية، فيسرُّ الألماني بتشريفتي، وأرى شعاع ابتسامة مضيئة على فمه.

صادفت متسولا من أبناء السبيل أمام سوبر ماركت، والفرنجة يتسولون أمام أبواب الأسواق المغلقة، أما متسولونا فيتسولون أمام أبواب المساجد، ولم أرَ في بلادي، التي توصف بالإسلامية، وهي من الإسلام نقيض، متسولا من الأقليات الدينية قط، وذلك من عجائب الاقتصاد في بلادنا الإسلامية! وكان ابن السبيل هذا إسبانيا أو لاتينياً، يرتدي زي مايسترو فرقة موسيقية، ومعطف له هيئة كسوة غلاف الصرصور، ويدهن وجهه بأصباغ سميكة حتى غيّبه تماما وراء قناعٍ، ويعتمر باروكة مثل باروكة القضاة الإنكليز، كان يقف ساعات طوال صامتا، وأمامه صندوق صغير، وما إن يتصدق عليه ألماني، والألمانيات أكثر رقةً وعطفاً، حتى يؤدي تلك الحركة الاستعراضية، التشريفية، فيمدُّ ذراعه، ويرفعها من أعلى صدره إلى أقاصي مداها فاتحاً بها قوساً عريضا للتهليل والسرور والتشريف، فيسرُ بها الألماني المكتئب. قرأت أن الصدقة تصلح دواء نفسيا، في بحث علمي غربي، وهي كذلك في الحديث الشريف. الأوربيون يعطفون على المساكين مقابل أمرين: عمل قطعة موسيقية، أو أداء مشهد مسرحي صغير. أما نحن، فباللوعة والدعاء والاستعطاف الذي يجرح القلب.

وكنت أشفق عليه، فهو يؤدي عملاً شاقاً، دونه كسر الصخور، أو عبور البحور، فالوقوف ساعات طويلة من غير حركة أشقُّ من خرط شوك القتاد. كان يؤدي دور الصنم، ولأنّي على ملّة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، شغوف مثله بتكسير الأصنام، فقد تقدمت وصافحته، ففتح يده ليرى غنيمة العرض، وكان يضع قفازاً، فوجدها خاويةً صفراء، وكنت أحضرت معي صديقي أحمد الذي سبقني بالنزوح ربع قرن ليترجم وصيتي له بالألمانية.

 سألت المايسترو: هل تتحدث بلغة غير الألمانية، الإنكليزية؟ قال: لا، العربية؟ قال: لا، التركية قال: لا؟ الكردية قال: إنه لم يسمع بها قط. قلت: ألم تسمع بكوباني؟ ستالينغراد المشرقين والمغربين، كل الشعب السوري خنع وعاد إلى حضن الوطن، إلا أهل هذه البلدة؟!
 ضحك أحمد، وترجم لي. جاء على مضض هذه المرة، فهو يهبُّ لنجدتي في المؤسسات الألمانية مترجماً، إلا هذه المرة التي وجدها غريبة: ترجمة لمتسول! قلت: لا أريد أن أتصدق عليك بقطعة نقدية معدنية، سأوصيك وصية قد تغتني بها يا أميغو. المثل يقول بدلا من أن تتصدق بسمكة علّم الصيد.

عوضاً من هذا الوقوف في البرد كفزاعة طيور، أحضر كرتونة يا أميغو، واجعل لها عوداً مثل عود الرمح، وازرعها بجانبك واجلس بجوارها مستظلا بفيئها، واروِ عودها بمياه الشعر، أكتب عليها كل يوم جملة شعرية لشيللر، لدانتي، لغوته، لهايني هاينرش فريدريتش، لهابل غونتر غراس، لمارتن ولسر: أكتب مثلا هذا البيت لغوته: 
الخيل والليل والبيـــداء تعرفني  
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وتأكد أنك بعد كتابته ستحصل على حريتك، وقد تتزوج من عبلة التي يلمع ثغرها كبارق السيف، وليس أجمل من أن يموت الفارس بهذا السيف.
 هزّ المتسول المايسترو المقنّع بطبقة من الغراء القاسي الناصع تلمع في وسطها عيناه، رأسه، وابتسم:
اكتب مثلا:
فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعة
 لَكِنّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا.
 ابتسم المايسترو، لترجمة أحمد الناقصة المعنى..
ترجم يا أحمد له بيت غونتر اليشكري:
وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي
 وَيُحِبُّ نَاقَتَها بَعِيرِي

وسترى السماء تمطر عليك ذهبا وفضة وعملة صعبة وأخرى سهلة. يبدو أنك من شيعة الشعر الحديث المقلّد، ولست من أهل الشعر الأصيل.. اكتب هذه الجملة وسترى أنَّ الحجارة ستتحول بين يديك إلى ذهب مثل ميداس الإغريقي: الجنّة للعدائين ولابسي الخوذات وحملة الفيتو.
 طيب ما رأيك بهذه القطعة لهايني الصالح فريدريتش:
الصيف سينتهي
الربيع انتهى
الخريف سيأتي
والشتاء ما زال بعيدًا
في أي فصل نحن؟


 لم يقتنع المتسول بوصاياي، وعدّها مزاحاً، وجهه وجه فقر، قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، استمر ينحني للناس، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. أخبرت أحمد أني أشتهي ضربه، فقال: ضرب حلب مسموح بكل أنواع الأسلحة، لكن ضرب الأفراد ممنوع في ألمانيا، ستخسر اللجوء، وقد تتهم بالإرهاب، وتعود إلى حضن الوطن، وستغني "يا هما لالي"، وسيصل عواؤك إلى قبرص وسائر المشرق، الأغلب أنك ستتحول إلى صورة من صور القيصر، التي لن ينتبه إليها أحد، لأن الجنة للعدائين وراكبي دراجات الفيتو.
جرّني، وقال: لا أمل من هذا الأميغو.

ثم قال: ابكِ على نفسك،  المتسول عنده جنسية ألمانية وراتب مساعدة.
رأيت من رحلة الشتاء إلى الهند، ورحلة الصيف إلى اليابان، وهما رحلتان لي: أن المتسول الياباني يؤدي عملا مقدساً، فهو يقف مفرود الذراعين، مثل قاضي البصرة في قصته الشهيرة، لو أكلت ذبابةٌ عينيه ما تحرك، أما متسولو الهند، فقد نصحني أصدقاء من مغبة التصدق عليهم، فهذا يفتح باباً لا يسدُّ، وكنت دائما أقع في المصيدة بدافع العطف والشفقة أو الإلحاح.
 مرة تبرعت بروبية، فأنا لا أحب رنين المعادن، وثقلها في جيبي، ولا قيود الساعة في معصمي، ولا الخاتم في إصبعي، والروبية مبلغ جيد لمتسول، فخرجت عليّ عشيرة من المشلولين والمعوّقين والمشوهين والعميان والعرجان، وهم يمدون أيديهم في مظاهرة مليونية: الشعب يريد إسقاط الروبية.

وخرج من بطن الأرض رجل له هيئة شائهة من ذوات الأربع، ذكرني بمشهد من مسلسل السندباد، الذي وجد نفسه أسيرا لرجل يتحول إلى عنزة، رجل يمشي على أربع، قدماه بطول يديه، وعلى ظهره ابنه، يقوده برسن، رفع لي يده، كان وجهه بشرياً، فصعقت وجريت من هول ما رأيت، وبقيت أياما مذعوراً، وأرى كائنات في الكوابيس لها حوافر وقرون.
 ، فالمتسولون يزينون الحياة، ويضفون عليها تنوعاً، ويشفي التصدق عليهم صدور قوم مؤمنين وملحدين. في حمص قبل ثبوت هلال الحركة التصحيحية، كانت الجمعيات الأهلية ما إن ترى متسولا حتى تسارع إليه، وتؤمن له عملا وعيشا كريماً، ثم جاء النظام، وجعل الشعب كله متسولاً وابن سبيل.

اعتذر أحمد ومضى لشأنه، وبقيت وحدي، رنّت لي ألمانية جرس الدراجة منبهةً، فأفسحت لها الطريق بالطريقة المسرحية الاستعراضية إياها، ونسيت أن أخبر أحمد، أنني أعمل في ألمانيا مثل عمل المايسترو، ولكن مجاناً، لا نريد جزاء ولا شكورا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب