السبت 2017/01/14

آخر تحديث: 11:04 (بيروت)

مكتبة "لينرت ولاندروك".. مقر أخير لاجترار الذكريات

السبت 2017/01/14
increase حجم الخط decrease
إغلاق مكتبة "لينرت ولاندروك" في وسط القاهرة لم يكن مفاجأة. أخبار كثيرة أكدت رغبة الملاك في تقليص النفقات والانتقال في المكتبة إلى حيز أصغر.. لكن ورغم ذلك فرؤية الأبواب المغلقة للمكتبة مقبض، ومثير للشجن.

القاهرة التي نعرفها تتآكل أمام أعيننا قطعة قطعة، صحيح أنها تتمدد في المقابل أيضا، لكن تلك قاهرة أخرى لا نعرفها، وربما لا نريدها، وكأن العاصمة الجديدة لم يكن لها أن تقوم إلا بالإنهاء على ما تبقى من القديمة ونسفها!

جزء آخر من تاريخ القاهرة سيطويه النسيان، ربما تتحول المكتبة غدا لمحل ملابس، أو تمتلئ فتريناتها - التي ظلت على مدى 100 عام تعرض لقطات نادرة لمصر في مختلف عصورها، لقطات اعتبرت أرشيفا بصريا موازيا لكتاب "وصف مصر"- بأجهزة الموبايل والعطور الرخيصة الملونة، أو تتحول لمطعم فاخر، أو حتى محل أحذية.

حراس كنز "لينرت ولاندروك"، استطاعوا إدارته بشكل جيد عبر تخزينه في الوسائط التكنولوجية الحديثة، وطبعه في كتب وملصقات بأشكال وأحجام مختلفة، وأيضا من خلال التواجد في أكثر من معرض داخل مصر وخارجها. لا خوف على الكنز إذا، لكن الخوف من التحولات التي لا تتوقف، من المدينة التي تأكل نفسها، من القدر المقبض الذي يلاحق المكتبات والعمارات المميزة، من اختفاء وسط البلد، وغربتنا في المدينة التي كرهناها فكرهتنا، وأدارت لنا ظهرها.

إدوارد لامبليه الوريث الذي آلت إليه مجموعة لينرت ولاندروك تقدم به العمر، ولم يعد راغبا في العودة إلى مصر، البلد التي فتنت أصحاب الكنز الأصليين، وبات يرغب في قضاء أيامه الأخيرة مع أحفاده في سويسرا.

قرار ينهى رحلة بدأها والده "كورت لامبليه"، قبل حوالي مائة عام، بالتحديد في 4 أكتوبر عام ١٩٢٤حين يشد "لاندروك" الرحال إلى مصر مع زوجته وابنهما "كورت" وهو من زوج سابق، كذلك فعلها لينرت أيضاً الذي سافر مع زوجته وابنتهما "إيليان".. العائلتان وصلتا إلى الإسكندرية علي ظهر الباخرة الإيطالية "تيفيري" وبدأوا على الفور في تجارة الجملة تحت اسم "شركة لينرت ولاندروك" في العقار رقم ٢١ بشارع المغربي "عدلي" في القاهرة، والمعروف بعمارة "بناني"، ناحية شارع شريف بعقد تم بواسطة المحاميين "دام" و"ليبهاين" من الجاليات الأجنبية التي امتلأت بها مصر في هذا الوقت بإيجار شهري ٣٠ جنيهاً مصرياً.

اقترض لينرت ولاندروك نحو ٢٠٠٠ جنيه مصري على أن يتم سداد القرض عام ١٩٤٨ وتكشف لهما بعد ذلك أن تجارة الجملة غير مجدية، فتوجهوا جميعاً لتجارة التجزئة وبدأوا في تأسيس محل في شارع إبراهيم باشا "الجمهورية" حالياً، ما بين فندقي شبرد والكونتيننتال اللذين كانا يداران بواسطة إدارة سويسرية والمعروضات كانت عبارة عن بطاقات بريدية وصور ومطبوعات فنية وبطاقات معايدة.

لكن الرحلة الحقيقة لتجميع الكنز بدأت قبل ذلك بكثير، حين قرر لينرت المولود عام 1878 في قرية "جروس أوبا" في مدينة فيلدشتين في جبال بوهيميا، أن يقوم بجولة في أوروبا سيرا  للاستكشاف وكان وقتها بعمر 21 عاما، وانتهى به المطاف في إيطاليا، حيث أقام بها بعض الوقت.

تطلع لينرت بعد ذلك إلى استكشاف الشرق، خاصة لقرب تونس من إيطاليا عن طريق اجتياز البحر المتوسط، وسافر فعلا عن طريق البحر إلى تونس عام 1903، حيث انجذب وانبهر بسحر الشرق، وبعد عودته من تونس تقابل مع صديقه لاندروك وأخذ يشرح له بإسهاب مدى تأثره بسحر الشرق مدعما حديثه بالصور التي التقطها في فترة وجوده هناك.

جمع بينهما حب الشرق القديم، فقام لاندروك بتمويل رحلات لينرت في الصحراء لالتقاط أكبر كم من الصور التي تكشف عن ملامح الجمال في تلك الطبيعة الساحرة، ثم يعود لينرت ويقوم لاندروك ببيع الصور وتسويقها، وتواصلت الرحلات الصحراوية حتى عام 1922، وفي هذا العام قررا المجيء إلى مصر لأنها الأشهر والأثرى من كل بلاد الشرق، وظلا على مدى عامين يدرسان الطبيعة المصرية، وبدأ النشاط الفعلي لهما عام 1924 حيث أخذت رحلات لينرت تجوب كل أنحاء مصر تسجل كل ملامح الحياة فيها، وكان للآثار المصرية النصيب الأكبر من اهتمام لينرت، إضافة إلى اهتمامه بتصوير الوجوه.

نتج عن رحلات لينرت ثروة هائلة من الصور الفريدة التي تعد تسجيلاً نادراً للآثار والحياة المصرية خلال تلك الفترة البعيدة، وبرغم الاهتمام والتركيز على مصر وتونس إلا أن لينرت ولاندروك قررا إضافة فلسطين والسودان وبعض البلاد الأخرى، انبهر لينرت بالتونسيات، خاصة في الجنوب، حيث كان يرى أن النساء هناك أكثر جرأة في مواجهة الكاميرا، اخترق الصحراء أيضا ليصل إلى جنوب شرق الجزائر، وصور هناك عددا من الواحات؛ ثم قام "لينرت ولاندروك" برحلة حول حوض المتوسط من مالطا شرقاً حتى إسبانيا غرباً مروراً بتركيا واليونان... وصورا خلالها سواحل الجزائر، كرواتيا، اليونان، إيطاليا، صقلية، ليبيا، فلسطين، تونس، تركيا.. أسبانيا.

أما مجموعة الصور التي التقطها في فلسطين فلها أهمية خاصة، حيث التقطها لينرت قبل النكبة بنحو عقدين، ثم أصدر مع لاندروك كتالوغاً يضم 200 صورة عن فلسطين، احتوت صوراً لقبة الصخرة والمناطق المحيطة بها، والمسجد الأقصى، ومشاهد للقدس القديمة.
كانت الصور التي يتم التقاطها خلال تلك الرحلات تلقى اهتماما ورواجاً كبيراً في أوروبا حيث يهتم الناس هناك بالتعرف على كل ما يخص الشرق.

لكن تظل المجموعة الأكبر هي مجموعة القاهرة، وإن كانت لا تقتصر على القاهرة، بل تمسح البلاد من الإسكندرية شمالاً إلى أقصى أسوان جنوباً، وباع لاندروك كتالوغات الصور المصرية على أجزاء، الجزء الأول باعه في ألمانيا ويضم 18 صورة فقط، فلما نجح تجارياً بما يفوق كل توقع، باع الجزء الثاني (200 صورة)، وتوالت الأجزاء لتصبح خمسة أجزاء، تضم أكثر من (500 صورة) التهمتها أوروبا بنهم غير مسبوق.

واستمر التعاون بين الصديقين لينرت ولاندروك حتى قرر لينرت التوقف عن التصوير والعودة إلى تونس عام 1930 وأقام في إحدى الواحات التونسية حتى وفاته عام 1948 وترك حقوق الطبع لصوره لصديقة لاندروك.

واصل لاندروك المسيرة، مصدرا كتباً عدة عن صورهما معاً، وواصلت المكتبة عملها بعد رحيل لاندروك عن الحياة (1966)، من خلال إدارة الابن د. إدوارد لامبليه لشؤونها، وتوسع اختصاصها لتصبح أهم مكتبة مصرية في كتب الفن القديم والحديث والمعاصر، باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، فضلا عن أعمال لينرت الفوتوغرافية.

الآن تغير الزمن، وتحولت القاهرة، وأدارت وجهها للجميع، ولم يعد هناك حاجة للمقر الكبير للمكتبة، مع ما يحمله ذلك من تكلفه، فانتقل الكنز إلى شقه في عمارة سكنية في شارع مجاور، ليس لصنع تاريخ جديد، لكن ربما كمقر أخير لاجترار الذكريات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها