السبت 2017/01/14

آخر تحديث: 11:02 (بيروت)

عن المواطنة والذمّية

السبت 2017/01/14
increase حجم الخط decrease
في حديثه الأسبوعي الأخير على القناة الفضائية المصرية، قال شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب إنه "لا محل ولا مجال أن يُطلق على المسيحيين أنهم أهل ذمة"، وأكد أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ورفض أي حديث عن الجزية، باعتبار أنه "كان لها سياق تاريخي وانتهى". ورأى الشيخ "أن مصطلح الأقليات لا يعبر عن روح الإسلام ولا عن فلسفته، وأن مصطلح المواطنة هو التعبير الأنسب، والعاصم الأكبر والوحيد لاستقرار المجتمعات"، و"المواطنة معناها المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعًا، بخلاف مصطلح الأقليات الذي يحمل انطباعات سلبية تبعث على الشعور بالإقصاء، وتضع حواجز نفسية تتداعى وتتراكم في نفس المواطن الذي يُطلق عليه أنه مواطن من الأقليات".

رأى شيخ الأزهر أن دولة الإسلام الأولى التي قامت في المدينة المنورة تبنّت "مبدأ المواطنة، وكان فيها يهود ومشركون بجانب أكثرية مسلمة"، وقال ان هذه المواطنة كانت "كاملة في الحقوق والواجبات". في هذا السياق، تابع المتحدّث كلامه، وقال "أن مصطلح أهل الذمة مصطلح غير مستساغ الآن، مع أنه كان في ذلك الوقت مفخرة للدولة الإسلامية، لأنها أول حضارة تحفظ حقوق غير المسلمين وتؤكد المساواة التامة بين المواطنين من خلال الصيغة التعاقدية بين غير المسلمين وبين الدولة الإسلامية". وأضاف: "ان الجزية فُرضت على غير المسلم كما فرضت الزكاة على المسلم"، و"كانت أقل تكلفة من أنصبة الزكاة"، "والجزية تعفي غير المسلم من الدفاع عن الدولة، لكن الزكاة لم تُعْفِ المسلم من الدفاع عن الدولة بما فيها من غير المسلمين بروحه وبدمه".

تفادى الدكتور أحمد الطيب الدخول في الإشكاليات التي تثيرها "الجزية"، و"أسقط" كل التفاسير التقليدية الخاصة بالتعريف بها. وردت كلمة "الجزية" مرة واحدة في النص القرآني، وذلك في الآية التاسعة والعشرين من سورة البقرة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". و"الذين أوتوا الكتاب" بحسب "تفسير الجلالين" اليهود والنصارى، وعليهم أن يعطوا الجزية، وهي "الخراج المضروب عليهم كل عام"، "عن يد"، أي "منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها"، و"هم صاغرون"، أي "أذلاء منقادون لحكم الإسلام". وفي "تفسير ابن كثير": "ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء". تاريخيا، حرص الحكام المسلمون على تنفيذ هذه الآية حرفيا، وذكر ابن الفوطي في كتابه "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة" أمثلة حية عن الأسلوب المتبع في دفع أهل المة للجزية في الدولة العباسية. في واقع الحال، اقتطُطعت الجزية بطرق مختلفة عبر العصور، وتمّ التخلّي عنها في مجمل الدول الإسلامية في العصر الحديث، وذلك بعد أن اقتضت اجراءات التحديث تغييرات جذرية في الأنظمة الإدارية والضريبية التقليدية.

في مصر، تمّ هذا التحوّل تدريجيا في عهد محمد علي باشا. أبطل مؤسس الأسرة الملكية قيود الزيّ المفروضة على الأقباط منذ قرون، وشرع في تحقيق المساواة بين المسلمين والأقباط في الحقوق والواجبات، وقام بتعيين مسيحيين كمأمورين على مراكز مهمة في مصر. كذلك، ألغى الباشا الكبير كل القيود التي كانت تُفرض على الأقباط لممارسة طقوسهم الدينية، ولم يرفض للمسيحيين أي طلب تقدموا به لبناء وإصلاح الكنائس. بعدها، ألغى الوالي سعيد باشا الذي الجزية المفروضة على الذميين في نهاية 1855، وشرّع في مطلع العام التالي قبول النصارى في الجيش وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم. أكمل الخديوي إسماعيل هذه الإنجازات، وقام بترشيح الأقباط لانتخابات أعضاء مجلس الشورى، كما عيّن قضاة منهم في المحاكم، وطلب لأوّل مرّة رتبة الباشاوية لرجل مسيحي، كما دعم المدارس القبطية ماديا، وساهم مساهمة فعالة في تقويتها.

في مطلع القرن العشرين، أنشأ مصطفى كامل "الحزب الوطني"، ونادى بالوحدة الوطنية، وقال "إن المسلمين والأقباط شعب واحد مرتبط بالوطنية والعادات والأخلاق وأسباب المعاش ولا يمكن التفريق بينهما مدى الأبد‏"، وضمّ تحت لواء هذا الشعار عدد كبير من أعيان الأقباط. اهتزّ هذا الوفاق بسبب فكرة إنشاء "الجامعة الإسلامية"، وانتكس عندما نشر الشيخ عبد العزيز جاويش في جريدة "اللواء" الناطقة بلسان الحزب الوطني مقالة عنوانها "الإسلام غريب في بلاده". تجلى الخلاف بين المسلمين والأقباط في الكتابات الصحافية المتبادلة بين عام 1908 وعام 1911، وتأزّم بعد اغتيال رئيس الوزارة بطرس باشا غالي في شباط 1910 على يد الورداني، أحد أتباع "الحزب الوطني". عاد الوفاق في زمن سعد زغلول، وظهرت وحدة "عنصرَي الأمة المصرية" في ثورة 1919 حيث خط المشايخ في الكنائس، وخطب القساوسة في المساجد، وارتفعت الأعلام التي تجمع بين الهلال والصليب. في عام 1922 وُلد الدستور القائل بمساواة تامة بين جميع المصريين، ودخل الأقباط مجلس الوزراء.

جذب "حزب الوفد" الكثير من الأقباط، وجسد هذا الحزب "الوحدة الوطنية" في حقبة متوترة عالميا. عام 1936، ألغى مصطفى النحاس المعاهدة القائمة  بين مصر انكلترا، وبدأ الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في قناة السويس. لمع نجم الإخوان المسلمين في هذه الفترة، وترافق ذلك مع نمو للمد الديني. في 4 كانون الثاني 1952، تعرّضت إحدى الكنائس للحرق في مدينة السويس قبل الاحتفالات بعيد الميلاد بحسب التقويم القبطي، وقضى في هذا الاعتداء عدد من الأقباط. على الأثر، اجتمع المجلس الملي العام، وأعلن الحداد العام "بسبب الحوادث العامة المحزنة المفجعة التي وقعت بمدينة السويس". بعد بضعة أشهر، قامت "حركة الضباط الأحرار" بانقلاب عسكري ضد الحكم الملكي، ولم يكن ضمن هؤلاء الضباط أي قبطي. أنشأ الحكم الجديد قانون الإصلاح الزراعي، وفرض التأميم، وألغى سائر الأحزاب السياسية، لكن هذه الإجراءات لم تهدد الوجود القبطي. شهدت الكنيسة نهضة عامرة في زمن كيرلس السادس، بابا الإسكندرية بين 1959 و1971، وخلال هذا العهد، وضع جمال عبد ناصر حجر الأساس في بناء الكاتدرائية البطريركية في العباسية في تموز 1964، وتم افتتاح الصرح برعايته بعد أربع سنوات.

تبدّلت الصورة بشكل كبير في عهد أنور السادات. حرّر الرئيس الجديد التيار الديني الأصولي لضرب التيار الناصري والمد اليساري، وأطلق على نفسه لقب "الرئيس المؤمن"، وأعلن في عام 1980: "أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية"، وأضاف إلى المادة الثانية من دستور 1971 عبارة تقرّ ان "الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر الرئيسي للتشريع"، ثم جعل من "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". ادّت هذه السياسة إلى احتقان طائفي ظهرت بوادره بسرعة. في خريف 1972، أحرقت كنيسة في مدينة الخانكة التابعة لمحافظة القيلوبية، ثم اغتيل القس غبريال عبد المتجلي كاهن كنيسة التوفيقية في سمالوط التابعة لمحافظة المنيا، وتبع هذا الاغتيال مواجهات عنيفة بين المسلمين والأقباط في 1978. مع انتشار المنشورات التي تكفر "النصارى" وتجيز قتلهم ونحلل الاستيلاء على أملاكهم، توسعت دائرة العنف، ووصلت إلى ذروتها عام 1981 في حي الزاوية الحمرا في شمال القاهرة. اثر هذه الحوادث الدامية، قام السادات بعزل البابا شنودة، كما أمر بالقبض على 1536 شخصية من مختلف التيارات والاتجاهات، واغتيل بعد شهر على يد منظمة الجهاد الإسلامي.

استمر مسلسل الفتن الطائفية في عهد الرئيس مبارك، وتواصل بعد خروجه من الحكم، في ظل نمو التيارات السلفية المتعدّدة. في الخلاصة، يمكن القول ان الفتن الطائفية غابت عن مصر منذ عام 1920 إلى عام 1970 بشكل شبه كامل، ثم عادت لتحتل الواجهة كما في القرون الوسطى، والمجزرة التي وقعت في الكنيسة البطرسية في نهاية العام الفائت ما هي إلا حلقة من حرب مستمرة بلغت حصيلتها زهاء أربع مئة "عملية عنف ديني" خلال نصف قرن من الزمان. في ظل هذا الواقع البائس، يعود الحديث المجترّ عن الذمية والمواطنة، ويتكّرر ويدور في حلقة فارغة، بعيدا عن أي إصلاح جذري ينهي هذه الفتنة المتنقلة.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها