الجمعة 2017/01/13

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

"قالب" كلارا صفير: الجسد تحت ضوء إرثه

الجمعة 2017/01/13
"قالب" كلارا صفير: الجسد تحت ضوء إرثه
تسرد فصلاً من قصة الجسد في الإرث الحركي العربي، مستندةً إلى طلات تحية كاريوكا ونبوية مصطفى
increase حجم الخط decrease
على طول عرضها، الذي حمل عنوان "القالب" (دوار الشمس-العرض الأخير مساء اليوم)، لم تُزح كلارا صفير، ولو قليلاً، عن جسدها، بل بقيت راسخة فيه، ومتحكمةً به، وذلك، على تدرج من بطئه إلى سرعته، ومن ثقله إلى خفته، ومن خفوقه إلى ثوائه. إذ إنها استهلت بيانها بالنظر وجذبه إلى يديها، اللتين رفعتهما على مهل إلى الضوء فوقها، قبل أن تنزلهما على جذعها، وتمضي إلى جعلهما في وسط جسدها، بحيث أنهما أوله، أو بالأحرى فاتحته. 

من خلال اليدين، تمسك صفير بجسدها، وتتناوله، واقعةً على رخاوته وسكونه، ما يحضها على تجميعه، وتشغيله في "قالب"، لا يضيق به، فيضطرب، ولا ينشرح عليه، فيتعثر. فلكي يذهب الجسد من ليونته الهامدة إلى صلابته المحتدمة، لا بد له من "قالب" يصونه، ويكفل تحوله، من دون أن يودي به إلى التقلص أو التهلل. وقد تكون الموسيقى، على اختلاف إيقاعاتها، وعلى تباعد رفعاتها، مدبجة هذا "القالب"، وذلك، ليس لأنها تحرك الجسد، بل لأنها تضعه في تحدٍ معها.

لم تكن الموسيقى إلى جانب جسد صفير، وفي الوقت نفسه، لم تكن ضده، لكنها، ومن أجل إثارته، تدربه على فعل، أو تمرين، بعينه، وهو الإفلات منها. تالياً، يدخل الجسد في عراك مع ضربات اللحن، التي تنزل على مسمعه، ومرةً، يرزح في إثرها، ومرةً، ينهض بها، وفي المرتين، تقوي عوده. فعندما اختطلت أنغامها المتباينة، وعلت الجسد، ظهرت كأنها، من ناحية، تسوطه، ومن ناحية أخرى، تنتشله من إعيائه، وبهذا، كاد يتصدع بين حركةٍ يحاول التآلف معها، وخمود يسعى إلى الحصول على بعضٍ منه، إلا أنه، وبدلاً من الإثنين، انحنى، وجثم، مقترباً من الأرض التي تحمله وتعتني به.

وما إن أقدم على فعله هذا، حتى أشار بهزه وتزعزعه إلى أنه ينفض الموسيقى عنه، ويبعد أثرها عن هيئته، التي، وعلى الرغم من كونها لم تكتمل، شرعت في الطلوع بذاتها. غدت الموسيقى إلى جانبه، بعدما كانت مسلطة، كالضوء، عليه، وغدت قرينته بعدما كانت مستحوذة عليه. لكن ذلك لا يعني أنه تمكن من حركته، وتضلّع فيها، إذ إنه، الآن، أمام تحدٍ آخر حيالها، وهو أن يخلقها من تلقائه، وبلا الإتكاء على إيقاع أو وقع، أي أن يرتجل إلى حدٍّ تبرز فيه الإشارات والإيماءات التي يبديها، كأنها من صنعه وحده.

برفق، يثبت، يجسد، يدور في مكانه حول نفسه، يأخذ وضعيات، تدل، بمجملها، على رشاقته، وعلى اعتياده البدني. ومع هذا، لم يكن هذا الجسد يخفي نوعاً من الألم المكتوم في طويته، فحتى عندما استلقى، ورقد، لاح على وجعه الصامت، وليس على هنائه الناطق، ولو بملمح وجهي، يفيد بنتفة من السرور. ثمة، في ذلك كله، ترويض للجسد، ليضحى "قالباً" مضبوطاً، ولا يشوبه ميل، أو يلوثه التواء، فيظل جسد مغسولاً بحركته، وطاهراً من أي صخب.

سردت كلارا صفير، وبمواصلة متقنة لا وقفات في أثنائها، فصلاً قصيراً من قصة الجسد في رواية الإرث الحركي في عالم اللغة العربية، مستندةً إلى طلات تحية كاريوكا ونبوية مصطفى في السينما المصرية. استدلت إلى سبل إنتاج الجسد، التي تربط طقسه الديني بتشكله البدني، واستعراضه بتطويعه، ورقصه بانتظامه. وبذلك، لم تقدمه الفنانة على أساس واحد، كمقهور، أو كقاهر، وكمغلوب، أو غالب، كمستسلم، أو رافض، إنما قدمته في رحلة "قولبته"، التي، في بعض الأحيان، تقترب من كونها عبارة عن تدريب، وفي أحيان أخرى، تحاكي التعذيب، وفي آخرها، ينتهي جسدها إلى عتمته. هناك، حيث يستمر في تحركه، وشيئاً فشيئاً، يختفي محياه، ثم، جذعه، ومعهما، تتوارى يداه، التي فتحت بيانه، وأقفلته. فمن الأفضل، في الخاتمة، أن تلتقط الفنانة هذا الجسد من ليل إرثه، وتحرره قطعةً قطعةً، من قالبه إلى قلبه، وبالعكس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها