الأربعاء 2016/09/28

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

أمّا وقد اعترف هولاند بخذلان "الحركيين" الجزائريين..

الأربعاء 2016/09/28
أمّا وقد اعترف هولاند بخذلان "الحركيين" الجزائريين..
فرنسا الاستعماريّة عمّمت تحت صمت الصورة "رسالة" مؤداها أن الجندي الأسود يتصرّف كجندي أبيض
increase حجم الخط decrease
إنّه درس رولان بارت مجدداً. تقفز تلك الكلمات إلى الذهن عند قراءة اعتراف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، بتخلي فرنسا عن "الحركيّين" الجزائريين، وهُم الذين صدّق أباؤهم مزاعم كولونياليّة عن كون الجزائر فرنسيّة، فقاتلوا ضد الاستقلال عن "الوطن الأم". ففي عين الثقافة النقديّة ومجمل ذائقة ما بعد الحداثة (وكان بارت من منظّريها)، يبدو الأمر تدريباً ذهنياً مدرسيّاً على الهوية غرباً وعلاقاتها مع الكولونياليّة وإرثها في السياسة والثقافة والاجتماع. قبل عصف الذهن، ربما يصح القول بأن كلمة "تخلي" هي مركز الثقل في الكلام، لكن مع لفت النظر إلى أن كلمات هولاند تضمّنت صراحة الاعتراف بفرنسيّة "الحركيين".

وبالعودة إلى بارت، يكاد اعتراف هولاند يكون تكراراً رتيباً لتصرف الدولة الفرنسيّة بشأن إرثها الكولونيالي، المربك (والحاسم أيضاً) لها وللشعوب التي مورست تلك الكولونياليّة عليها. فعندما كانت فرنسا في أوج صراعها الداخلي بشأن استقلال الجزائر، ظهر عدد لمجلة "باري ماتش" الفرنسيّة تتصدّر غلافه صورة لجندي "زنجي" يؤدّي التحيّة للعلم الفرنسي. لم يكن ذلك في عين بارت سوى "أسطورة" حديثة: فرنسا الاستعماريّة تعمّم تحت صمت الصورة غير الناطقة، "رسالة" مؤداها أن الجندي الأسود يتصرّف كجندي أبيض، بل يجري التعامل معه كذلك بمعنى نشر صورته على غلاف مجلة فرنسيّة. وبكل ازدراء، وصف بارت الأمر بأنه رسالة الإمبراطوريّة- الاستعماريّة التي تريد الصورة تعميم "أسطورتها" (سلبها من سياقها الفعلي و"ليّ" الوقائع المتصلة بها)، مستخدماً الكلمات التالية: "تريد الكولونياليّة الفرنسيّة أن تقول بأنّ فرنسا إمبراطوريّة كبرى، وأنّ ابناءها كلهم، من دون فارق في اللون، يخدمون مخلصين تحت رايتها، وأنّه لا جواب على أولئك الذين ينتقصون ما يدعى بالاستعمار، أفضل من حماس هذا الجندي "الزنجي" في خدمة من يوصفون بأنّهم ظالموه".

وبعد قرابة نصف قرن على مقال بارت عن صورة الجندي الأسود في "باري ماتش"، يقدّم الرئيس هولاند خطاب الدولة الفرنسيّة المعاصرة بشأن "الحركيّينط الجزائريين مستخدماً الكلمات التالية: "أعترف بمسؤوليات الحكومات الفرنسيّة في التخلي عن الحركيين والمجازر التي وقعت لمن بقي منهم في الجزائر وشروط الاستقبال غير الانسانية للذين نقلوا الى فرنسا... فرنسا نكثت بوعدها، وأدارت ظهرها لعائلات، على رغم أنها كانت عائلات فرنسيّة".

أسطورة أخرى؟ ما الذي تفعله فرنسا- هولاند بشأن عائلات فرنسيّة مقيمة في فرنسا، خصوصاً الأجيال الحاضرة من العرب والمسلمين (إضافة إلى الأفارقة) فيها؟ هل تُعامَل تلك الهويّات باعتبارها جزءاً من "فرنسا"، وفق ما تسعى كلمات هولاند لقوله ضمناً؟

بين سارتر وساركوزي
وَرَدَ الاعتراف "الهولاندي" في سياق حفلة مخصّصة لتكريم الحركيّين الذين قاتلوا مع فرنسا ضد ثورة الاستقلال في الجزائر. وحضر الحفلة، على نحو لم يخل من الدلالة، حشد من الرسميين الفرنسيين، كالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (سبق أن أدلى باعتراف مشابه، لكنه أقل وضوحاً، بشأن الحركيّين في 2012)، وزعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان. وشهد الاعتراف نصف مليون من أبناء الحركيّين الذين يوصفون باستمرار في الاعلام الفرنسي، بأنّهم ينتظرون "الانصاف" بمعنى الاعتراف بفرنسيّتهم الكاملة من جهة، وبأن فرنسا تخلّت عن قرابة 75 ألف حركي في نهاية حرب استقلال الجزائر (1962)، فتركتهم عرضة لأعمال انتقام دامية، فيما أُسيء استقبال 60 ألف حركي انتقلوا إلى فرنسا حينها. بقي هؤلاء في وضع "معلّق": لم يتمزّقوا بين هويّتين، بل كانوا بلا هويّة كليّاً.

كيف ينظر ساركوزي إلى ذلك الاعتراف، فيما يطالب مسلمي فرنسا (بينهم أجيال حركيّين، لكن ليس ذلك هو المهم)، بأن ينسوا أجدادهم، ويقصروا ذاكرتهم التاريخيّة على التفكير بأن "أجدادهم" هم الـ"غاليّون". ماذا لو تذكّرنا بأن "غالة" هو الإسم القديم لفرنسا، وهو لا يشملها كلها جغرافيّاً؟ ماذا لو تذكّرنا أن ساركوزي نفسه هو ابن مهاجر إيطالي، ما يعني أن قصر ذاكرته التاريخيّة على "غالة" كشخص فرد، يتضمّن الكثير من القسر والابتسار؟ ماذا عن مارين لوبان التي لا تقبل إلا بهويّة فرنسيّة "مكتسحة" وأحاديّة، بل تفوق هوية فرنسا الكولونياليّة التي انصب عليها انتقاد بارت في مقاله الذي كتب أيام الديغوليّة؟

لم يكن بارت يساريّاً، لكن التحوّل في مساره حدث بتشرّبه العميق لنقد الفكر الجوهراني بأنه تفكير مفتوح المسارب على العنصرية، لأن القول بأن للإنسان جوهراً لا يتغيّر هو عنصريّة بامتياز (أمثلة كلاسيكيّة: الأسود له جوهر أدنى بنظر الأبيض، اليهودي جوهره خسيس بنظر النازي)، مع نفيه متغيّرات التاريخ والمجتمع والثقافة وغيرها.

صراعات "الذاكرة التاريخيّة"
في فرنسا حاضراً، يستعر نقاش الهويّة بأشد مما كانه إبان بارت، ونقاشات استعمار الجزائر والكولونياليّة الفرنسيّة في مستعمراتها الافريقيّة. "حضر" أبناء هؤلاء إلى فرنسا، مهاجرين، وهي معضلة غير منفصلة عن الكولونياليّة الفرنسيّة والغربيّة عموماً، لكنها تحتاج نقاشاً أوسع يشمل مسؤولية فرنسا والغرب عن فشل نموذج الدولة في العالم الثالث.

في فرنسا حاضراً، ثمة مَن ينظر إلى الهويّة باعتبارها شأناً سيّالاً ومتغيّراً وغير جوهراني، ما يعني قبولها بالتجدّد عبر متغيّرات كثيرة، خصوصاً عبر التعدّد. بعجالة مخلّة، تبلورت "هوية" فرنسا الحاضرة عبر مسار يمكن ربطه بخيط قوامه التخلّص من الأحاديّة، وقبول التعدّد. إذ تخلّصت من الأحادية الكاثوليكيّة عبر "سلام وستفاليا" (1648) الذي جعلها راعية للكاثوليك والبروتستانت، بل لكافة رعاياها، مع رفض الدمج القسري المضمر أو المعلن، في الواحد الكاثوليكي. وتجدّدت هويّة فرنسا مرّة اخرى مع ثورتها ثم حروبها "الثوريّة" (خصوصاً حروب نابليون بونابرت)، فصارت "المواطنية المتساوية" نسيج خطابها الأساسي، خصوصاً بعد "سلام فيينا" (1815). الأرجح أن الأمرين ساهما في صعود الهويّة القوميّة في فرنسا، التي انتشرت مع جيوش بونابرت، لكنها صعدت بعد سقوطه كما عبّر عن ذلك الوحدتين الألمانية والإيطالية.

في فرنسا القوميّة، هناك مثلاً المساحات "الناطقة بالألمانيّة" في الإلزاس واللورين (وقد شكلت جزءاً من الصراع مع هتلر)، وكذلك الكورسيكيّة التي اندرجت بتمرد ما زالت آثاره قابلة للتلمس. قبل القوميّة بقليل، ومعها وبعدها، صعدت الكولونياليّة الفرنسيّة، قبل أن تهوي، مخلّفة اختلالات بنيويّة هائلة وممتدة، يصعب نقاشها من دون الخوض في متاهات  متشعبة. وبعد حربين عالميتين تلتهما حرب باردة، صارت الهوية الفرنسيّة أميَل إلى مزيج من القومية والأوروبيّة، مع هويّات فردانيّة معولمة في الغالب، على غرار القبول بمهاجري ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم أجيالهم الثانية والثالثة، جزءاً من الهوية الحاضرة لفرنسا.

بالعودة إلى "الحال" الجزائريّة، يُظهر تحليل بارت أن "الحركيّين" الأوائل، لم يُعامَلوا كالجندي "الزنجي" المطيع للإمبراطوريّة، على رغم قبول الحركيّيين بـ"بركة" الاستعمار، بل على رغم صيحة "الجزائر فرنسيّة" التي تغرغر بها سياسيو فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية (في ذروة الحداثة أيضاً)، قبل أن يقر الجنرال شارل ديغول بخواء تلك الصيحة. ارتبكت فرنسا الديغوليّة، من دون أن تقبل تحمّل مسؤوليتها المزدوجة عن استعمار الجزائر وإدعاء أنها جزء من فرنسا أيضاً. كانت فضيحة مزدوجة، يكشف التحليل البارتي جزءاً منها (العتو الكولونيالي وعسفه وتذويبه الهويّات)، ويكشف الاعتراف المتأخّر بالحركيّين بجزئها الآخر: ضرورة أن تهجر الهويّة الفرنسيّة، مرّة اخرى، صورها النمطية (الكاثوليكيّة، البيضاء المتفوقة على بقية الأعراق، الاستعمارية، الفرنسيّة- الأوروبيّة- المتمازجة)، لتصل إلى هويّة أكثر تعدداً، لا يكون "الأجداد المسلمون/ العرب" مرفوضين فيها، بمعنى ضرورة استئصالهم وإلغائهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها