الإثنين 2016/08/29

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

طيور داريا

الإثنين 2016/08/29
طيور داريا
كأن الطيور اعتادت أن تحوم في محاذاة الداريين، نظراً إلى أنهم كانوا وإياها يحضرون على طرز واحد
increase حجم الخط decrease
ثمة في اللسان العربي تشبيه "كأن على رؤوسهم طير"، يفيد بأن إحدى الجماعات تتجمد في مطارحها خوفاً أو اضطراباً. على أن الطيور، التي حامت فوق داريا في حين بروح سكانها، حولت هذا التشبيه إلى حديث صريح، وقلبته رأساً على عقب. للوهلة الأولى، يشعر مشاهدها أنها تلاحق الداريين، الذين يسيرون تحتها، كي لا يصيبها فزع، أو ينزل بها مكروه. فقد كانت مطمئنةً إليهم، ومتآلفةً معهم، ومرد أنسها بصحبتهم، أنهم كانوا، وعلى سبيلها، يصنعون حيواتهم، التي تتسم بالتجلد والشدة. وهم، في إثر ارتحالهم، يقولون لها بأنهم سينتقلون بصناعتهم إلى رجاء آخر، وبذلك، لا تتردد في مرافقتهم، إذ إنهم يكفلون عيشها، متيحين لها إقران وجودها بوجودهم.

أن تحوم الطيور فوق رؤوس الداريين، فهذا لا يعني أنهم كانوا، في وقت  ذهابهم، ثابتين على ذعرهم، بل إنها كانت، في وقت تحليقها، مرتاعةً لأمرها من بعدهم. كيف ستحيا في مدينةٍ، تحكمها دولة "البعث"، معتقلةً إياها قبل الفناء والدنيا؟ كيف ستسكن إلى هذه الدولة التي، وباعتبارها صميم كل دولة، لا تستطيع التسيد على أي أرضٍ سوى من خلال إزالتها؟ كيف ستسلم نفسها لجنودها، الذين سيقطعون طوافها، ويسدون كل مدى مقابلها؟


فالأبد، عندما يدمر ويحطم، ينتج حضارته، التي، وبوصفها ذروة الحضارة الحديثة، تقوم بمحو الحياة وسحقها. ذلك، أن إنسانه لا يفهمها، ولا يتحمل وقوعها، ولهذا، يعمد إلى لجمها، وحبسها، وخطفها، ولما لا يجد لأفعاله هذه ظروفاً مؤاتية، يحاصرها ويهجرها. غير أن الحياة لا يمكن إقتلاعها ولا نفيها، بل إنها، وعلى دوامها، تَحْدُث فتُصْنَع. هذا ما يفطن الداريون له، وهذا ما واصلوا تأكيده على طول خروجهم من "سوريا الأسد".

صحيح أن السماء، وبسبب روع الطيور التي حلقت فيها، بدت كأنها تحت رؤوس الداريين، وليس فوقها، لكنها كانت في جوار أرض بروحهم أيضاً. كأن الطيور اعتادت أن تحوم في محاذاة الداريين، نظراً إلى أنهم كانوا وإياها يحضرون على طرز واحد: يثبتون في مكان، يرتبون جريان الحياة فيه، وحين يلوح لهم خارجه، يشير بأن أوان الرحيل إليه قد اقترب. بالتالي، يتستعدون لهجرتهم. الطيور تبدل ريشها بآخر نضر، والداريون يذرفون الدمع، مجددين عيونهم. والإثنان يعتريهما نهم في الحياة، ويأخذهما صوبها.

هناك نظرية في الهجرة الطيّارة، يرى أصحابها أن الطيور لا تهاجر بفعل الحاجة إلى الطعام، بل لأنها، في فصلٍ معين، تدفق منها حيوية، تتشكل كإحساس بالجوع أو العطش، فتلحقها، حتى تلتقي بدفق حيوية أخرى، تتشكل كطعام أو ماء. ولكي تقدر على تتبع دفقها، فلا تنكسر في إثرها، أو تخور، تجتمع وترحل أسراباً. الحال إياها تنسحب على الداريين، الذين احتشدوا في أسرابهم، وتعقبوا دفقهم الحيوي، برمي النظرات على مدينتهم، وبالبكاء، وبالقهقهة، وبالجزم في كونهم طاقوا قصفهم ومحاصرتهم، واظبوا على تهريب وجودهم بين البراميل والحواجز، ولذلك، الهجرة قد تهشمهم، لكنها لن تكسحهم.

على عكس تصوره كرهط مغلق، الحرية تستدعي التغريد ضده، وللسرب معنيان. في الأول، هو القلب والنفس. وفي الثاني، هو الفريق الذي يتألف على أساس الحياة، التي تبزغ من كائناته، أكانوا طيوراً أو بشراً، وتجعلهم يلاحقونها في كل خارج، حيث يلتقون بها.

وبما أنه ليس للداريين سوى أسرابهم، فهذا يدل على أنهم، وكلما خرجوا، يمكنهم ذلك من السكن في قلوبهم وأنفسهم، حتى انهم يعطون للإقامة مساراً آخر: إقامتنا في مكانٍ ما تبدأ بالإقامة في أسرابنا، ولما تضرب دولة الأبد حصارها على ذلك المكان، لن تقدر على محاصرتنا، ولما تقتلعه، لن تعرف أنه موجود في كل مكان. فنحن، حين نسكنه، فذلك، ببساطة، لأنه يتيح لنا أن نقطن في قلوبنا وأنفسنا، أي أنه يتيح لنا الخروج منه، والمضي إلى كل الأمكنة.

قالت إحدى الصديقات أنها عندما رأت الداريين يجرون حقائبهم وأكياسهم، شعرت بأننا، نحن، هنا، في بيروت، وفي مدن غيرها، نعيش لحظات دارية كثيرة. ذلك، أننا، وبين فترة وأخرى، نحمل شنطنا وصناديقنا، منتقلين من منزل إلى آخر، فما أن نستوي في مكان حتى يدفعنا ضيق الأوضاع وشظفها إلى تركه. لاحظت الصديقة أن تلك اللحظات هي لحظاتنا الأكثر واقعية، لكننا، وعلى الرغم من عيشنا لها، نختلف عن الداريين في تلقفها.

فلما كانوا، إسوةً بكل السوريين، لا يتراجعون عن مواجهتها، ويحضرون فيها، غدوا ضليعين في تدبيرها، ولما كنا نستمر في تجنبها وتأجيلها، تعاظم خوفنا منها، لدرجة أننا بتنا لا نتوقف عن الرحيل كي لا نقطن في أنفسنا وقلوبنا.

فعلياً، كم نحتاج إلى وقت من الواقع لكي نستحيل داريين، لكي نستحيل طيوراً!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها