الأحد 2016/08/28

آخر تحديث: 13:47 (بيروت)

"مولى الحيرة" لإسماعيل يبرير... القصص الموؤودة

الأحد 2016/08/28
"مولى الحيرة" لإسماعيل يبرير... القصص الموؤودة
تنتهي الرواية نهاية مفتوحة بأمل عودة العاشقين وتتويج قصة حبهما القديمة
increase حجم الخط decrease
يتلاعب بنا الروائي الجزائري إسماعيل يبرير في روايته الجديدة "مولى الحيرة"(*)، عبر شخصية "بشير الديلي" الراوِي الأساسي في الرواية. حيث يحكي لنا بشير حكايتين منفصلتين ومتقاطعتين زمنيا ومكانيا، فتتفرع حكاية "التالية" عن حكايته هو بشير وتصبح حكايتها الأصل وحكايته فرعاً. ونؤسر بحكاية "التالية" مع يحيى حتى نكاد ننسى حكاية بشير مع الشعر والقصائد ومع شبح حبيبته "الخونيّة".  

ولا ينكر صاحب رواية "وصيّة المعتوه" تلاعبه بنا نحن القراء حيث افتتح الرواية بمفتتح عَنونه بـ"مفتتح بمثابة مداعبة"، مفتتح منفصل تماما عن النص الروائي وفاتحة له. ويقول فيه على لسان الشيخ الأبيض الذي يسكن بشير الديلي: "الحكاية وحش متعدد مخيف لا يهدأ شكله وكنهه... المتاح قليل متى بحثت عنه فاكتف بالحكاية يا ديلي ... فلا تدع الوحش يخنق  متعك، حرره يا الديلي، حرره وتحرر منه".

هكذا يهيئنا الكاتب بالمداعبة الروائية الأولى إلى حكايةٍ-وحش. حكاية تخفي في جوفها حكاية أخرى غير متوقعة.. تنطلق الرواية بنهاية سنة 2015، نتابع زمنا روائيا قصيرا في الظاهر،  ثلاثة أيام من حياة بشير وروتينها. لنتابع فيها الحيرة الوجودية التي يعاني منها هذا الستيني موظف البلدية المتقاعد الذي يعيش حالة الشعر دون كتابته، اللهم ذكرى قصيدة يتيمة كتبها في شبابه ومازال يترقب بعدها قصائد لا تأتي. خلال هذه الأيام الثلاث لا ينام بشير مطلقا، يؤثث وقته بالتجول في شوارع المدينة والحنين لشارع "القرابة"، شارع الطفولة والشباب والأحلام المُجهضة. يتنقل من مقهى لمقهى مشتتا بين أحاديث رواد المقهى وجوههم وأفكاره وذكرياته الخاصة. لا يفصل بين المقهى والثاني سوى القليل من الوقت وشارع أو شارعين لكنه سفر زمني من نوع آخر، سفر يعرفنا به البشير اليساريّ الهارب من حيه القديم بسبب موجة التدين ومهاجمتهم الغير مباشرة لليساريين، يعرفنا على المدينة وناسها وطبقاتها الاجتماعية وانتماءاتها من خلال تصرفات وأحاديث الناس في مقاهيها وشوارعها.

تنتقل الرواية نقلة نوعية عند وقوع الحدث الرئيس الذي يقطع غيبوبة بشير الوجودية، وذلك بموت جاره اللدود "السايح". البشير الذي يعتبرُ نفسه مخصيّا، أضاع عمره يطارد القصائد ويلتهم الكتب، استيقظ بصدمة موت جاره "اللدود". جاره "البنيّ" كما كان يسميه الذي لم يكن يتبادل معه حتى التحية، توفي وللمفارقة بعد يوم أو يومين من الحوار القصير والوحيد الذي تبادلاه أخيرا بعد سنوات من العداوة الغامضة التي عاشاها في تقاطعاتهما اليومية في درج العمارة حيث يسكنان. يربك موت الجار البشير فهو يعتبره حجر أساس في حياته اليومية يوقعها بلقاءاتهما المتقاطعة في الدرج. ويرتبك وجوده أكثر حين يناديه الناس لحضور المأتم وهناك يتغير مسار الأحداث تماما. فيتحول البشير إلى راو يُحدث "المدني" الصديق المرتجل الذي اكتسبه خلال المأتم بحكاية عشق التالية ويحيى. وبدل أن يجر البشير مدني كي يحدثه عن  حبيبته "الخونية" يجره المدني فيحدثه عن قصة "التالية" التي عادت مؤخرا لبيت أبيها بعد أن ترملت. هكذا تتكشف القصة الحقيقية التي أراد الكاتب أن نعرفها، قصة الحب الموؤودة بين يحيى والتالية وزواجها-الصفقة من بازيد.

تبدأ الحكاية الداخلية، حكاية "التالية" بقصة غرامها الخرافية بيحيى التي تنتهي باختفائه الغامض وزواجها البائس ببازيد كزوجة ثانية حيث نفهم أن "جلول المرعوب" والدها "باعها" في صفقة نجهل تفاصيلها حتى النهاية. عادت التالية للمدينة بموت بازيد ومعها ولد عمره عشر سنوات، بعد  أن عاشت ممزقة  بين ذكرى حبها ليحيى ومودتها الفتية لزوجها بازيد الذي رأت به رجلا حنونا رغم  زياراته الزوجية القليلة  لها. وبازيد شخصية عجيبة لا تثير النفور رغم تغوله التجاري وسيطرته على  مفاصل المدينة من خلال صفقات مشبوهة، بل نتعاطف معه. نشفق عليه هو الذي تربى منبوذا مرتين، نبذه أولا المجتمع للون بشرته ونبذته ثانيا زوجة الأب بعد موت والدته فتربعت في البيت وغطت بحضورها وانجابها للكثير من الأطفال على حضوره.

فقط تبقى لدينا بعض الفضول عن مصائر رفاق البشير، عبد الحميد "المنظر" الذي أراد التأسيس لتيار جديد، الزين اليساري الشعبوي المتدين الذي يشرب النبيذ ويرتدي لباسا أبيضا أنيقا لصلاة الجمعة، ناصر "مثقف منتصف الليل"،  وناصر " الفيلسوف الشيوعي"  متقلب الأفكار والانتماءات... جمعت هؤلاء الأصدقاء الشيوعية  لكن الحياة فرقتهم. وآخر ذكرى يحتفظ بها بشير ذكرى سهرتهم لاحياء ذكرى رحيل غيفارا. تبقى لنا الفضول عن مصائرهم سواء في الحكاية الأصل أو الحكاية الفرع، ما عدا عبد الحميد يعود فيظهر في نهاية الرواية كخال "التالية"، معلم  كهل يحبه الجميع ورجل استثنائيّ لا يتحرج من التعبير عن حبه لزوجته وأشواقه لها بين الناس في مجتمع ذكوري يتوله فيه الرجال بالنساء ولا يعبرون عن مشاعرهم  إلا في الخفاء.

تتميز الكتابة عند اسماعيل يبرير بالنفس السرديّ الطويل المبني على جمل فعلية ووصفية قصيرة، لا تنتهي بالنقاط وإنما تفصل بينها الفواصل. حيث أن كل جملة وكل فاصلة في مكانها المناسب. لم يلجىء الكاتب لاستعمال النقاط إلا للفصل بين  الفقرات الطويلة نسبيا. وهذا يحيلنا للغته الرشيقة، حيث أن كل كلمة تم اختيارها بعناية. لا كلمة تزيد عن الحد فيمكن الاستغناء عنها. ولا معنى مكرر يفيض عن النص فيرهقه. حتى رسائل العاشقين التالية ويحيى، جاءت بكثافة العشق وبصوتين مختلفين، صوت يحيى العاشق الخجول وصوت "التالية" المراهقة العاشقة التي تتلمس طريقها بعيدا عن سطوة الأب. ومما يحتسب لاسماعيل يبرير مروره السريع على الأحداث الدموية التي شهدتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي. حيث  تتشكل لدى القارئ فكرة عن المجتمع الجزائري الآن فيتصوره مجتمعا يتذكر الأحداث ولا يقع تحت سطوتها، يحملها بشكل أو بآخر في اليومي كجزء من تاريخه.

تنتهي الرواية نهاية مفتوحة بأمل عودة العاشقين وتتويج قصة حبهما القديمة ولو بلقاء بعد أكثر من عقدين، وذلك بعد أن يلعب عبد الحميد الخال دور عراب الحب الذي  يحمل لابنة أخته رسالة اشتياق مبطنة من يحيى. تنتهي الرواية وتترك لدينا تساؤلا عن بشير، مولى الحيرة ما الذي سيحل به في وحدته. تراه سيواصل بحثه عن قصيدته الثانية أما سيُحوّل وجهته للقصص والروايات، خاصة بعد أن سرد للمدني وسرد لنا معه، سردا ممتعا لقصة عاشقة جزائرية  اسمها التالية. 


(*) صدرت عن دار مسكيلياني 2016
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها