السبت 2016/08/27

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

البوركيني ونانسي عجرم

السبت 2016/08/27
البوركيني ونانسي عجرم
.. لكن الاستجابة إلى الشعبويّة والمشاعر اللحظيّة الفياضة، هي أيضاً مبعث ذعر (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لنتحدث بهدوء، خصوصاً بعد قرار المحكمة العليا الفرنسيّة لصالح البوركيني. هل صحيح أن "قرار" بعض البلديات الفرنسيّة ضد ارتداء البوركيني موجّه ضد الإسلام، بالأحرى مُسلِمات فرنسا؟ هل كل المسلمات في فرنسا يلبسن ذلك اللباس على البحر، بإجماع أو ما يقرب منه، حتى يكون قرار البلديات ضد ديانتهن؟ هل مسلمات فرنسا كلهن على فهم واحد للدين وأحكامه وفقهه بشأن الملبس البحري أو غيره؟ وحده إسلام متطرّف بإمكانه أن يحشر تلك الأجساد والأجيال كلها في علبة واحدة تنمّطهن وتجعلهن كلهن صورة مكرّرة من "الواحدة نفسها" (باقتباس عنوان كتاب للمفكر اللبناني وضّاح شرارة) التي يتخيلّها ذلك التطرّف، بمعنى تنميط كل الإناث في فرنسا في جسد واحد لا يتخيلّه إلا في هيئة محرّمات متراكبة وعورات لا تنفصم عن بعضها البعض. هل كل مُسلِمات فرنسا هن تلك الواحدة المعلّبة للإسلام المتطرّف؟

تأمّل وجيز في "مسلم فرنسي"
في صيدا، يظهر التنميط والتعليب وتغييب التنوّع والتفاوت بصورة لا تقل عما يروّج له المدافعون (بتلاوين مختلفة) عن أفكار التنميط السلفي المتطرّف المعاصر، في "الحظر الاستباقي" للرقص في حفلة نانسي عجرم. "صيدا لن ترقص"؟ من قال أن صيدا هي الواحد الذي يكرر نفسه بلا انقطاع، على غرار صورة النازية (وأضرابها الكُثُر) عن ما يستحق برأيها أن يكون شعباً. هل صيدا كلها سُنّة ومتطرّفون؟ هل صيدا، مسلمين ومسلمات، من دون أي ديانات اخرى؟ حتى لو كانت كلها سنّة، هل كلها على فقه واحد، ورأي واحد، وتصرّف واحد، في المسائل كلها؛ بداية من أركان الإسلام وصولاً إلى تفاصيل الاجتماع والسياسة والحياة اليوميّة؛ وهي كلّها لم تكن إلا موضع خلاف واجتهاد وتفاوت وتغيّر على امتداد تاريخ ذلك الدين؟

هناك ثنية مهمة تغيب كثيراً، خصوصاً عن مثقفين يكتبون بكلمات علمانية دفاعاً عن تطرّف "القاعدة" و"داعش". لنتأمل كلمة "مسلم فرنسي" (وكذلك "مسلمة فرنسيّة). يشير القسم الأول إلى دين، وهو شأن له طابع بشري واسع ومتفاوت. تشير الكلمة الثانية إلى وطن محدّد، بما فيه الدولة- الأمة: فرنسا. ويعني العيش في تلك الدولة قبولاً بعيش مختلط ومتمازج وبإيجاد "تصرف" مع الدولة التي تضم مكوّنات متنوّعة بشدّة. الأرجح أن فرنسا ليست يوتوبيا، لكن بواقعية بشرية وأرضية، هي من الدول فائقة التقدّم في مفهوم المواطنة، وفي استناد الدولة والنظام على الدستور والقانون.

بقول آخر، حتى لو سلّمنا لدواعي النقاش وحدها أن "المسلم" هو هوية جامعة موحدة ساحقة، يفرض الشق الثاني في تعريف المواطن "المسلم الفرنسي" وجود تعدّد وتنوّع وإيجاد تصرف دنيوي بشري لشأن المواطنة. (بالمناسبة، تلك هي المهمّة الأولى للفقه، لكنه نقاش شاق). إذا حلّق الشطر الأول (وهو ما يفعله كثيرون ممن يستمرئون محاسن المواطنة الفرنسيّة، لكنهم لا يرون في هويتهم سوى الإسلام لا غير)، تقع الأمور في تطرّف ديني يتيح تبرير أشياء لا حصر لها. في المقابل، إذا حلّق الشطر الثاني وحده، بمعنى تحويل فصل الدين عن الدولة إلى موقع إلغائي وعنصري من الدين، نصل إلى ما حصل في تجارب "العلمانية المتوحشة" التي وُصفت بها النازية والفاشية والستالينيّة وغيرها. هناك توازن ما لا يجري إلا بالانفتاح على التفاعل. توضيحاً، الوصف السابق ينطبق أيضاً على "مسيحي فرنسي"، وتاريخ المسيحيّة مع الدولة- الأمة في فرنسا هو ما صنع توازناته (تكراراً، بصورة نسبيّة وليس بالإطلاقية العصيّة غالباً على البشر).

ويصح الوصف عينه أيضاً مع توصيفات اخرى، بما فيها تلك التي "نُسيَت"، بمعنى أنها تراجعت أمام تغوّل التفكير السلفي المتطرف المعاصر. ماذا عن "جزائري فرنسي" التي ما زالت موجبات توازناتها غير محسومة على ضفتيها: الجزائر وفرنسا، على رغم التفاوت بين المستَعمِر والمستعمر، والمتقدم والمتخلف، واليوم والأمس وقبله وغيرها. ماذا عن "عربي فرنسي"؟ يحتاج ذلك إلى نقاش أعمق كثيراً، خصوصاً أن هوية العروبة تحتاج بحد ذاتها إلى نقاش مستفيض.

اختزال الإسلام والخروج من التاريخ
في المقابل، ظهر عبر التلفزة والراديو، مَن تحدّث بنبرة عالية عن "العداء للإسلام" في قرار بلديات فرنسا بشأن البوركيني! كيف ذلك؟ بالاختصار، عبر اختزال الإسلام كله في ثوب، يكون القرار ضدّ الثوب عداءً للإسلام، خصوصاً عندما يكون الوطن الفرنسي (والدولة الفرنسية) هي تحت النيران البربرية المباشرة لإرهاب يرفع راية إسلامويّة؟ أليس القول بـ"عداء للإسلام" في البوركيني، رفع الأمور إلى حدّ متطرف لا يتلاقى معه سوى من يستفيد من التطرّف كـ"القاعدة" و"داعش"؟

في تلك الأصوات، لا حضور للموجبات في العيش مع "الآخر"، ولا تفكير في الهويات ومساراتها التاريخيّة والاجتماعية، خصوصاً علاقة تلك الأشياء مع الحياة اليوميّة للبشر المتخالطين.

أبعد من ذلك، بعض تلك الأصوات (من دون تسميات محرجة)، لا يتنبه إلى أنه يقدّم على صحن من فضة معاناة شعوب وهويّات وجاليات وتواريخ عربيّة وإسلامية، إلى مائدة تبرير الإرهاب السلفي المتطرف الذي انفلت منذ 11/9 ولا زال. وينطبق الوصف على من هرعوا للغرف من بئر "المعايير المزدوجة"، ولنأمل أن قرار المحكمة العليا الفرنسية يدفعهم إلى التفكير مجدداً في تلك البئر.

في السياق عينه، لا تأخذ تلك الأصوات القويّة معطيات من نوع أن البوركيني ارتدته "المسلمات" منذ 2005 تقريباً، فلماذا صار الآن في الموضع الذي هو عليه؟ هل يصح عزل ذلك عن هجمات "داعش" على فرنسا، وكلها مجازر دمويّة طاولت الشعب الفرنسي بمكوناته، وضربت أساس حياته العادية اليوميّة، خصوصاً الأمان البديهي للأجساد والأرواح، والعيش في بداهة الحق في الحياة؟ كيف لا تصبح المظاهر المتطرفة مثاراً لمشاعر ملتبسة؟ استطراداً، يجب القول فوراً بأن الملابس هي حق فردي، والدولة التي تستند إلى الحريات يجب أن تنصاع لقرارات الأفراد، لا أن تفرض بقراراتها ملابس أو قيوداً مشابهة عليهم.

هناك التباس تسأل عنه مؤسّسات الدولة الفرنسيّة التي يسجّل لها انخراطها في النقاش ويسجل لمحكمتها العليا تفكيرها الملتصق بالتاريخ والمجتمع، لكن الاستجابة إلى الشعبويّة والمشاعر اللحظيّة الفياضة، هي أيضاً مبعث ذعر. أليس في تاريخ النازية والفاشية أنها نجحت تحريك تلك الذائقات والأمزجة، إلى حد الإمساك بالسلطة، ثم مجازر الإبادة في الهولوكوست، ثم رمي العالم في حرب عالمية كان ختامها الفناء الذري.

بؤس في نقاشات الهويّة
تولّى فكر سلفي متطرف لزمن ما بعد الحداثة، تنميط أجساد مسلمات فرنسا ملغياً التاريخ ومتغيّراته والاجتماع وتراكيبه والثقافة ومعطياتها، ولنترك مسألة الفرديّة لأنها لا تنتهي. وبتلك "الآلة" السلفيّة المتطرفة نفسها، عُلّبت مدينة صيدا اللبنانية بأكملها، وصيغت في جسد يرفض الرقص، ولا يتبنى أمام نفسه وخالقه ووطنه وشعبه سوى تفسيرات سيد قطب والمودودي ومحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية؟

يكفي السير دقائق قليلة في شوارع صيدا كي يسقط ذلك الوهم، وعلى غراره تكفي التفاوتات (نعم، تصل إلى حدود الفردية التي هي حدودها أصلاً) بين "مُسلِمات" فرنسا لإزالة الوهم القائل بأن "القرار" بشأن البوركيني هو ضدهن.

هناك ثنية اخرى. هناك تفاوت وتنوّع حتى في قرار بعض البلديات الفرنسيّة ضد البوركيني، بمعنى أنّه بوضوح لا يتحدث عن منع المسلمات من ارتياد الشواطئ، بل ينحصر شأنه في نوع محدّد من اللباس وهو أمر ليس هيناً لأن الجسد (خصوصاً الجسد النسوي) كان دوماً موضع صراعات السلطة والمجتمع والثقافة. ولا يطاول القرار أنواعاً اخرى من الملابس ترتديها المسلمات عند ارتيادهن الشواطئ، كالحجاب. (نفتح قوسين للقول بأن الحجاب متنوّع أيضاً، بل تبرع النساء أفراداً في تنويعه، بالضد من وَهْم التعليب والتنميط المفترض في التفكير السلفي المتطرف). واستطراداً، تجدر الإشارة إلى أنّ المايوه بحد ذاته متنوّع، فليس كله "بيكيني"، بل يشمل مايوه القطعة الواحدة، ومايوه القطعتين القريب من بعض ملابس الرياضة، والمرتجل من الـ"كاجوال" وغيره.

لا تنوّع في البيان الإسلاموي عن الرقص في صيدا: كل الرقص ممنوع. لا يفترض بيان "الواحد نفسه"، أن ذلك الواحد يرقص في صيدا، بل يرقص كثيراً. ألا ترقص عائلات صيداويّة في حفلات الأعراس، على الأقل تلك التي لا تأخذ بالفصل بين الجنسين، فلِمَ يجب أن تمتنع في حفلة نانسي عجرم؟

ويبدو بوضوح أن اليمين (خصوصاً المتطرف، ليس كل اليمين) أميل إلى "القرار" بشأنه، فيما اليسار متفاوت تماماً، بداية ممن يسايرون ميولاً شعوبيّة (تحتاج هي إلى نقاش أيضاً) ووصولاً إلى الاعتذاريين اليساريين الذين باتوا متورطين في "الاعتذار" عن إساءة الحقبة الاستعمارية الفرنسيّة ضد الامبراطوريّة العربيّة- الإسلاميّة إلى حدّ أن الاعتذار عن ذلك التاريخ يلامس أحياناً الخروج من التاريخ تماماً. كيف يكون تفكير في التاريخ المساواة بين مذبحة الخرطوم ضد جيش المهدي، وبين محاربة "داعش" في العقد الثاني من القرن العشرين؟ يصعب التوقف عن الأسئلة قبل الإشارة إلى مدى البؤس في الخروج من التلامس مع التاريخ عند نقاش مشاكل الهويّات (وهي عسيرة أصلاً)، ويزيد المرارة أن يقدّم ذلك التفكير بأنه يسار، بل يسار أوروبي غربي (حسناً، يتقاطع مع بعض مفكرين ليبراليين فرنسيّاً وعربيّاً)، ما يدفع للتفكير بأن تلك الأمور تحتاج إلى نقاشات أعمق مما هو سائد الآن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها