الأربعاء 2016/08/24

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

فاتنات روسيات: آنا آخماتوفا.. روحية الراهبة وإيروس بائعة الهوى

الأربعاء 2016/08/24
increase حجم الخط decrease
رغم اقتنائي الكثير من الكتب الروسية المترجمة إلى العربية، والتي كانت تصدر في زمن الاتحاد السوفياتي الآفل، لم يصدف أن قرأت ترجمة لقصائد الشاعرة آنا اخماتوفا، ولا أعرف إن كان النظام الشيوعي قد ترجمها الى العربية، ولم تكن ضمن الروزنامة الأيديولوجية للشيوعية. قرأتُ قصيدتها "قداس جنائزي" في المرة الأولى، منشورة بترجمة وضاح شرارة في جريدة "النهار". كان لإسمها وقعاً خاصاً في ذاكرتي. قرأتها بشكل عابر في البداية، ثم سرعان ما بدأ حضورها يتوسع بعد ترجمة الكثير من قصائدها وشذرات من سيرة حياتها. بدا لي أنها ليست شاعرة فحسب، بل تختصر تجربتها، واقع الرعب الستاليني من جهة، وواقع الحب التراجيدي من جهة ثانية.

فآنا أخماتوفا، من أهم رموز الشعر الروسي والعالمي في القرن العشرين، مرّت على وفاتها خمسون عاماً (1966)، مع العلم أنها سليلة أسرة من الطبقة الراقية في أوديسا الأوكرانية، ويوحي اسمها بأنّها تنحدر من سلالة جنكيز خان، التي كانت تحكم مناطق واسعة من الأرض الروسية. وقد اختارت اسمها التتري من جهة أمها، بعدما حرمها أبوها من التوقيع باسم عائلته، إذا كانت تصر على كتابة شعر"انحطاطي". كتبت آخماتوفا: "لا أحد في عائلتي الكبيرة كتب الشعر، بيد أن أول شاعرة روسية، آنا بونينا، كانت خالة جدي ايراسم ستوغوف... وخان أخمات احمد، جدّي الأقدم، قتل ذات ليلة في خيمته على يد قاتل روسي أجير... وكان معروفاً ان أحمد هذا كان سليل جنكيز خان"...

آنا آخماتوفا، اسمها الحقيقي آنا غورنغو الملقبة بـ"القيثارة" و"ايقونة الألم الروسي". وُلدت في العام 1889، وتوفيت في الخامس من آذار 1966. بدأ اهتمامها بالشعر في عمر مبكر، وكتبت أولى قصائدها وهي لا تزال في الحادية عشرة من عمرها، ونشرت بعض بواكيرها في نهاية مراهقتها. لقد رأت، وهي طفلة، عهد آخر قياصرة روسيا، نيكولاي الثاني. وشاهدت في حياتها، الثورة البلشفية الشيوعية، والرعب الستاليني، وتورط روسيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعاصرت إعدام الشاعر أوشيب مندلشتام، في أحد معسكرات الاعتقال، وانتحار الشاعر ماياكوفسكي. وأُعدم زوجها الشاعر نيكولاي غوميليوف في العام 1921، رمياً بالرصاص، بتهمة التحريفية. كما أعتُقل ابنها، ليف، مرات عديدة، وزج في معسكرات الغولاغ، فيما كان مآل البعض الآخر المطاردة القاسية، أمثال صاحب "دكتور زيفاغو" بوريس باسترناك والشَّاعرة مارينا تسفيتايفا. أما آنا، فعُزلت وطردت من إتحاد الكتاب السوفياتي، فكتبت قصيدتها الملحمية "قداس جنائزي".

بدأت قصة آنا، العام 1906، وهي في السابعة عشرة من عمرها، عندما واجهت والدها المهندس البحري بحقيقة أقرب الى الصرخة، قائلة: "أنا شاعرة!" وفي كييف، بعدما حصلت الشاعرة على الشهادة الثانويّة (1907)، دخلت كليّة الحقوق ودرست تاريخ الأدب، وتعلّمت بعض اللغات الأجنبيّة. لكن الشاعر بوشكين ظلّ هواها الأكبر، إلى جانب الرومانسيين الفرنسيين، ومجموعة من الشعراء والكتّاب، على رأسهم هوميروس وفيرجيل ودانتي...

كانت أخماتوفا ذات جمال آسر منذ نعومة أظفارها. تعرفت على زوجها نيكولاي غوميليوف عندما كانت في سن 14 عاماً، وتبادلا الرسائل. وفي العام 1909، طلب غوميليوف يدها رسمياً. وفي 25 نيسان1910، عقد قرانهما ثم سافر العروسان لقضاء شهر العسل في باريس طوال فصل الربيع. وهناك التقت بالرسام الإيطالي مودلياني، ونشأت بينهما علاقة صداقة... وفي العام نفسه ساهمت مع الشاعر ماندلشتايم وآخرين، في تشكيل تجمّع شعري. كان هذا التجمع يبشر بفكرة الصناعة الشعرية، وليس الإلهام او الغموض، واعتماد الملموس والحسي بدلاً من التعابير الغائمة عند الرمزيين. اعتنقت أخماتوفا نظرية البساطة والمباشرة واعتبرت أن "الشاعر يستعمل الألفاظ نفسها التي يتفوّه بها الناس لدعوة بعضهم البعض الى فنجان شاي". فبدأ شعرها يصيب الشرائح العريضة للشعب الروسي وتكرّست للحركة صفة "الذرووية" التي وصفها ماندلشتايم بأنها "مدرسة الشعر العُضوية"، قائلاً: "نحن لا نعتبر التمثّلات الكلامية، حقائق وعي موضوعية فحسب، بل أيضاً هي كأعضاء الإنسان، كما القلب أو الكبد".

لم يدم زواج آنا وغوميليوف طويلاً، فالأخير فقَد رغبته في زوجته، وسرعان ما تركها متوجهاً إلى صيد الأسود فى إفريقيا. وذاقت آخماتوفا طعم الشهرة، ثم عادت لزيارة مودلياني في باريس، حيث رسم لها عشرين لوحة على الأقل. تقول آنا عنه: "كان يبدو أنه يعيش في حلقة من العزلة. لم يذكر أبداً اسم صديق، لم يتفكّه أبداً. لم يتحدث أبداً عن غراميات سابقة، أو عن أشياء دنيوية أبداً. كان مجاملاً بنبل، وكان ينحت تمثالاً في فناء ملحق بالأتيلييه. وقد دعاني الى "صالون المستقلين في 1911، لكني عندما ظهرت، لم يأت إليّ. وقد أخذني الى القسم المصري بمتحف اللوفر ـ كان يحلم بمصر فقط، "كل شيء آخر لا أهمية له". وقد رسم رأسي بأسلوب ملكات الأسر المصرية القديمة. لقد انتصر عليه كلية ما كان يسميه "الفن العظيم". كان يصحبني لأشاهد باريس في الليل، Clair de lune. وأمام فينوس دي ميلو استدار ـ "تبدو النساء الجميلات الجديرات بأن يرسمن أو تصنع لهن تماثيل متدثرات بكثافة في ملابسهن". كان يحمل مظلة سوداء ضخمة، وقد جلسنا تحتها في اللوكسمبرغ تحت أمطار باريس في الصيف الدافئ. أنشدنا قصائد بولين معاً كجوقة. كان من ذلك النوع النادر، رسام مولع بالشعر. وذات مرة وجدت باب مرسمه موصداً، فألقيت وروداً عبر النافذة في تراخ. "كيف دخلت؟ لقد كان الباب موصداً". "لم أدخل". "لكن الورود وضعت بشكل جميل ـ بشكل منسق على السرير". 

رسم مودلياني لأخماتوفا لوحات تليق بها، جعلها فيها تبدو جالسة ببهاء، وترك مجموعة تخطيطات لها. ومن بين عشرات البورتريهات التي رسمت لها من قبل رسامي عصرها، ظلت تخطيطات مودلياني هي الأقرب الى روحها. قصة الحب بين اخماتوفا ومودلياني هي "قصة الجنون، عندما يأتي مرة على هيئة قصائد، ومرة على هيئة خطوط"، بحسب الكاتب خالد مطلق. في اغلب التخطيطات بدت اخماتوفا عارية، لكنها تصر في احاديثها الشخصية على أنه رسمها في متحف اللوفر حينما اصطحبها في جولة في أروقته عندما كانت في ضيافته. 

ستكون علاقات آنا الثقافية والغرامية الشغل الشاغل لكاتبي سيرتها، ربما بسبب متطلبات الإثارة المتزايدة في عالم النشر. بعض السير يتحدث عن زواج أخماتوفا ونيكولاي غوميليوف الذي أحبها أكثر مما أحبته، والذي استوعبها بكل تناقضاتها وأهوائها وكاد أن ينتحر لأجلها مرتين قبل أن تقبل به زوجاً... وعلى يديهِ سترى أولى قصائد الشاعرة، النور، حين ينشرها لها على صفحاتِ مجلّة "سيروس" العام 1911، وكانت هذهِ المجلّة قد ظهرت لفترةٍ قصيرة في باريس، مطبوعةً باللغةِ الروسيّة.‏ وبعد مودلياني كانت لها علاقة بالشاعر ماندلشتايم، وكتبت زوجته ناديجدا في مذكراتها أنها سامحت آنا على علاقتها بزوجها. منذُ بداية العام 1911 حتى صيف 1917، عاشت آنّا أخماتوفا في ما يشبهُ مزرعة تعودُ لأهل زوجها الأول... في العام 1912 نُشرت المجموعةُ الشعرية الأولى للشاعرة، بعنوان "مساء"، وقّدم لها الشاعر ميخائيل كوزمين. ورغم أن عدد نُسَخِها لم يتجاوز الثلاثمئة نسخة، إلا أنها أثارت انطباعاً جميلاً بين الشعراء والنقّاد.‏ في اول قصيدة قالت: "إنني اضع قفاز يدي اليسرى/ في يدي اليمنى". فقالت عنها مارينا تسفيتاييفا: "ان المرأة بأكملها، والشاعرة بأكملها هي في هذين البيتين. ان آخماتوفا كلها، فريدة، لا مثيل لها، ولا تضاهى". وفي الثالثة والعشرين من عمرها عبّرت عن انحطاط المرحلة: "نحن كلنا سكارى، وبغايا/ فيا لنا من حطام كلنا".

لم تنشر آخماتوفا في مجموعتها الأولى "مساء"، سوى 35 قصيدة، من بين مئتين كتبتها عند نهاية 1911. هذه المجموعة جعلت منها شاعرة مذهلة. وعن هذهِ المرحلة المبكّرة من حياة الشاعرة نشرت إحدى صديقاتها، وهي فيرا أندريفنا نيفيدومسكايا، كتاباً في نيويورك أسمتهُ "عش النبالة الحقيقي"، وتحدّثت فيه عن مزرعة غوميليوف وآنّا. ومما قالتُه: "كانَ لآنّا أخماتوفا وجهٌ صارمٌ، كل ملامحها حادة، ووجهها جميل، عيناها رماديتان بلا ابتسامات. كانت تجلسُ إلى الطاولة صامتة: كُنتَ تحسُّ مباشرةً أنها غريبة في عائلة زوجها، لقد كانت هي وزوجها كغُرابين بيضاوين في هذهِ العائلة البطريركيّة، لقد أغضبَ الأم أن ابنَها لم ينتسب إلى الحرس، ولا إلى السلك الدبلوماسي، لكنّه أصبحَ شاعراً، قد يضيعُ في أفريقيا، بل وقد أحضرَ إلى مزرعتهم زوجته الغريبة هذه التي تكتبُ الشِعر أيضاً، وتلبسُ بطريقةٍ غريبة غير عصريّة.. الخ"..

وظهرت مجموعتها  "ورديات" في 1914، كرّستها بين أشهر وأحب شعراء اليوم. مئات النساء كتبن شعراً، تكريماً لها، ومحاكاة لأسلوبها، فقالت: "علّمت نساءنا كيف يتكلمن، لكنني لا أعلم كيف أعلّمهن الصمت". بعد الحرب العالمية الأولى في 1917، ظهرت مجموعة جديدة للشاعرة بعنوان "السرب الأبيض"، لكنّ القراء والنقّاد لم يستقبلوها كما توقعت الشاعرة. ولعلّ أحداث تلك السنة العاصفة والاحترابية، كانت وراء التعتيم والإهمال الذي طاولَ المجموعة الشعرية، وكانت الشعوب منهمكة في أحداث الحرب العالمية وتداعياتها، وحصلت الثورة البلشفية الروسية وقد بدلت مسار الثقافة والحياة.

وقالت أخماتوفا: "شخصيا أعتقد أن هذه المجموعة ولدت في ظروف أشد قساوة، فحتى طرق المواصلات انقطعت في تلك الفترة، وكان من الصعب إيصال أي نسخة منها إلى موسكو، فوُزّعت في بيتروغراد فقط. حينها أغلقت الصحف والمجلات".

وبعد انهيار زواجها أو علاقتها بغوميليوف، ارتبطت أخماتوفا خلال الحرب العالمية الأولى بشاعر وفنان الموزاييك بوريس أنريب الذي كتبت عنه ما لا يقل عن 34 من قصائدها، وقام بدوره بتجسيدها في العديد من لوحاته التي حُفظ بعضها في متاحف عالمية. وأُعدم زوجها الأول العام 1921 لنشاطاته "المعادية للثورة". 
 ثم كانت لها علاقة مع مدير المسرح ميخائيل زمرمان، والموسيقي آرثر لوربيه الذي لحذن بعض قصائدها... وتزوجت من عالم الأشوريات فلاديمير شليكو وانفصلت عنه، وتزوجت الباحث الأدبي نيقولاي بونين (توفي في معسكرات الأشغال الشاقة). وفي الثلاثينات، اعتقل ابنها ليف لأنه ابن ابيه (زوجها الثالث). وفي رسالة الى ستالين، تُدمي القلب، تضرّعت آنا لإطلاق سراحه، وأنهتها بقولها: "الرحمة، يا يوسف فيساريونوفيتش"... وفي 1941 انتحرت أختها الشاعرة مارينا. على أن اخماتوفا دخلت، بعد إعدام غوميليوف منذ العام 1923، في صمت مطبق عن قول الشعر، وأُدينت بعد العام 1922 لـ"ميولها البورجوازية".

عانت القمع لسنوات طويلة، لكنّها رفضت الذهاب إلى المنفى كما فعل الكثير من الكتّاب الروس... لم يكن الخوف يمنع أخماتوفا من الوفاء لأصدقائها الملاحقين والمعتقلين. زارت العام 1936، صديقها ماندلشتايم في منفاه، في مقاطعة فورونيج. وعن ذلك كتبت قصيدة أطلقت عليها اسم "فورونيج". بعد ذلك بعامين أعدم ماندلشتام.

تقول أخماتوفا في المقطع الأخير من قصيدتها:
وفي غرفة الشاعر المغضوب عليه
يتناوب الخوف مع جنيّة الشعر
والليل يسير
الليل الذي لا ينبئ بالفجر.

ستكون أخماتوفا في مواجهة الثقافة الكلّانية والشمولية، اذ عاشت عاشت حياة صعبة جسّدتها في "نشيد جنائزي". وفي هذه القصيدة تحكي بإحساس عميق بالعجز واليأس عن تجربة الشعب الروسي تحت حكم ستالين، خصوصاً معاناة النساء اللواتي كنّ يقفن معها خارج أبواب المعتقلات بانتظار رؤية أزواجهنّ وأبنائهنّ. وقدمت أخماتوفا لقصيدتها بالكلمات الآتية: في أعوام ييجوف الرهيبة، أمضيت في طوابير سجون لينينغراد سبعة عشر شهراً. عرفني أحدهم في إحدى المرّات. حينئذ استفاقت المرأة التي تقف خلفي من ذهولها، الذهول الذي كان يصيب الجميع، وسألتني هامسة في إذني (كان الجميع يتحدثون همساً هناك): هل تستطيعين وصف هذا الذي يجري؟
أجبتها: أستطيع.
عندئذ سرى ما يشبه الابتسامة في ذلك الذي كان وجهها في يوم من الأيام.

وخلال تلك الفترة شغلت أخماتوفا نفسها بالنقد الأدبي، لا سيما بأدب بوشكين، وأيضاً بترجمة أعمال فيكتور هيغو، طاغور، جياكومو ليوباردي، ولشعراء كوريين وأرمن مختلفين، وكتبت سيرة ذاتية للشاعر ألكسندر بلوك. في تشرين الثاني/نوفمبر 1945، وصل ديبلوماسي بريطاني شاب الى شقة في لينينغرادـ تقطنها احدى أهم شاعرات وشعراء روسيا ما قبل الشيوعية. الشقة، التي هي جزء من مسكن جماعي، أقامت فيها أنّا أخماتوفا، كتب عنها الروسي جورجي دالوس بعنوان: "زائر من المستقبل: آنّا أخماتوفا وأشعيا برلين". لقد كان هذا الحدث الذي حصل قبل نصف قرن ونيف، أهم لقاءات الاثنين طوال حياتهما. فمعظم عمل دالوس محاولة تقييم لما ترتب على اللقاء الذي عرف به ستالين، وقد شاع انه قال: "إذن راهبتنا تستقبل جواسيس بريطانيين".

وتعرضت اخماتوفا، بعد عام، لتشهير اللجنة المركزية العلني، وأجبرت جلادها جدانوف ان يعترف بروعة شعرها من خلال شتيمة أطلقها، حينما وصفها: "نصف راهبة.. نصف بائعة هوى. وكأنها تكتب شعرها ما بين الملاءة والسرير". في "إشارة مبتذلة الى البعدين الايروسي والروحي في قصائدها" بتوصيف حازم صاغية. كتابها الجديد مُنع، كما أعيد اعتقال ابنها. وهي الأمور التي ردتها أخماتوفا نفسها، في وقت لاحق، الى اللقاء بالفيلسوف الروسي - البريطاني. وبالغت الشاعرة الكبيرة في تقدير نتائج اللقاء، إذ اعتبرته، كما يروي دالوس، واحداً من اسباب الحرب الباردة. 

الجانب الآخر في اللقاء كان جزءاً من قصة حب تراجيدية. فبعد مغادرة برلين موسكو في 1946، كتب اليه بوريس باسترناك: "كنتَ الكلمة الثالثة في كل ثلاث كلمات تقولها". أصبحت آنّا صديقة مقربة لبوريس باسترناك الذي تقدم لخطبتها غير مرة، مع انه كان متزوجاً. لكنها رفضته.  

بعد طردها من اتحاد الكتّاب السوفيات في 1946... أصبحت تعيش على راتب تقاعدي هزيل، وما تحصل عليه مقابل الترجمات... وصدر لها مجلد ضم مختارات من شعرها القديم عنوانه "مختارات من ستة كتب"، لكنه سحب من المكتبات بعد بضعة أشهر على صدوره. وفي الفترة نفسها، اعتُقل ابنها ليف العام 1949، وظلَّ في السجن حتى 1956. وكي تساعد في إطلاق سراحه، كتبت أخماتوفا قصائد مديح لستالين وللسلطات الحاكمة، لكنَّ ذلك كلَّه ذهب هباءً.  

استمر اعتقال الأصدقاء وموتهم يلاحق أخماتوفا. ففي العام 1953، قضى نيقولاي بونين(زوجها) في قبضة الجلاّد في معتقل الغولاك. وكانت أخماتوفا قد انتقلت لتعيش في بيت بونين في بطرسبورغ. في هذا البيت، حين علمت أخماتوفا بموت بونين في المعتقل كتبت:
لن يستجيب القلب بعد الآن
لندائي متلهفاً منشرح النبض
كل شيء ينتهي... وقصيدتي ستهيم
في ليل خاو، حيث لم تعد أنت.

أمّا صديق أخماتوفا، الشاعر ميخائيل زوشينكا، الذي عانى وإياها المنع والاضطهاد الستاليني، فترك رحيله، الشاعرة وحيدة، تحت سماء الخوف. في العام 1958، عام وفاته، كتبت أخماتوفا، تبحث عنه:
أرهف السمع لعلّ صوتاً يجيء من بعيد
لا شيء حولي، لا أحد
مدِّدوا جسده
في هذه الأرض الطيّبة السوداء
لا غرانيت ولا صفصاف باكياً
يظللان جثمانه الخفيف
لا شيء سوى رياح البحر والخليج
تهبّ إليه لتبكي عليه.

حين مات ستالين، رددت آنّا عبارتها الشهيرة: "سيعود المعتقلون الآن، وسينظر كل معسكر للآخر: معسكر من قام بالاعتقال ومعسكر نزلاء المعتقلات. إنه عصر جديد يبدأ". وبعد نهاية الحقبة الستالينية، عادت إلى نشاطها الأدبي الطبيعي، وصار الشعراء الشبان حينها يحجُّون إليها، فهي تمثّل لهم صلة وصل لمجتمع وثقافة ما قبل ثورة أكتوبر الروسية، وما بعدها. وكتبت عشرات القصائد التي تمجِّد الحب والإنسان، ودانت بشدة الهجرة والانفصال عن الوطن: "لست مع من يهجر وطنه". أما موضوعها الرئيسي فهو الحب المأسوي الأنثوي الذي يمزج العاطفة بالأسى والحزن بالبهجة والأمل.. وفي 1964 سُمح لها بالسفر الى ايطاليا لتسلّم جائزة عن شعرها. وعندما زارها الشاعر الأميركي روبرت فروست في 1962، كتبت تقول: "كنت أملك كل شيء: الفقر، طوابير السجن، الخوف، قصائد تحفظ في الذاكرة فقط، قصائد محروقة والإذلال والحزن".

حققت آنا أخماتوفا خَرقاً نوعيا في الوسط الثقافي الروسي الذي كان تاريخيا يغلب عليه الطابع الذكوري. هذه الشاعرة الفاتنة شكلاً وشعراً، كتب عنها عدد غير قليل من الشعراء، وجُمعت قصائدهم في كتاب نشر العام 1925 بعنوان "صورة أخماتوفا". في فترات شبابها الأول، وإلى جانب مودلياني، وضع لها أبرز الفنانين التشكيليين بورتريهات ورسومات شخصية، ومنهم ناثان آلتمان الذي رسم لها لوحة تُعتبر أشهر أعماله، بالإضافة إلى كونها أحد أشهر الأعمال الفنّية العالمية. البورتريه يغلب عليه اللونان الأزرق والأخضر وظلالهما. كما كُتبت مجموعة من الأعمال الموسيقية عن قصائدها، لموسيقيين بارزين من أمثال: فيرتنسكي، يروكافيفييف، لورا.‏ لقد رأى فيها الموسيقار الفرنسي مونتوفاني، البطلة التي تناسب ما يعتمل في خياله من عرض أوبرالي، يجمع بين التقاليد الغنائية والتعبير المعاصر.

عقب وفاة أخماتوفا العام 1966، كتب الكاتب الروسي كورني تشوكوفسكي عنها قائلاً: "لا دهشة أنها توفيت بعد هذه المحن الصعبة". المدهش هو "ذاك العناد الذي عاشت فيه بيننا، سامية، فخورة، عطوفة، وعصية على الموت". وقال جوزف برودسكي عن آنّا أخماتوفا أنها "دفنت حية"، لكنها بحسبه، "استطاعت أن تتحول من ضحية للتاريخ الى قاهرة له". وسيكتب عند وفاتها: "إنِّي أحيِّي رماد هذه السيِّدة العظيمة التي ترقد في مسقط الرَّأس لكلمات صدحت بها في عالم أبكم... أصمٍّ".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها