الأحد 2016/07/31

آخر تحديث: 12:17 (بيروت)

روح درويش وغلاة اسرائيل

الأحد 2016/07/31
increase حجم الخط decrease
منذ أن اشتهر محمود درويش في قصائده، وهو يشكل مشكلة للإسرائيليين. لا يحتملونه، يعتبرونه أخطر من السلاح، بل ويحسدونه على حبه للأرض، وربما يفكرون بالاستحواذ على ابداعه كما حاولوا الاستحواذ على الفلافل وصحن الحمص والتراث الشعبي الفلسطيني. حتى في الحب، يجهدون لإظهار علاقته بعشيقته اليهودية التي كتب لها قصيدة ريتا.

القضية تبدأ من فكرة الثقافة، إذ كثيراً ما قيل أن الشاعر أخطر من الجيوش، وهذا ما تختصره الصهيونية غولدامائير عندما قالت، غداة اغتيال الموساد الاسرائيلي الكاتب غسان كنفاني العام 1972 في بيروت: "لقد قضينا على كتيبة كاملة".. ما دفع محمود درويش إلى كتابة مقال طويل عن كنفاني بعنوان "غزال يبشر بزلزال"، قائلا: "لم نكن نعرف أننا نكتب أدباً مقاوماً الى أن أطلق كنفاني قذيفته في كتاب "الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة".

وبعد ثماني سنوات على وفاته، ما زال درويش يقلق جنرالات اليمين الإسرائيلي وغلاة التطرف. فكما نعلم، تسبب درويش في إثارة أزمة جديدة داخل إسرائيل، بسبب قصيدة "بطاقة هوية" أذيعت خلال فقرة تعليمية في القناة الثانية الإسرائيلية. واعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن قصائد درويش تتساوى مع كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر، بينما أعلن أعضاء الكنيست العرب أنهم سيلقون هذه القصائد على منصة البرلمان الإسرائيلي. لا نريد العودة الى تداعيات وتفاصيل ما حصل بعد اذاعة القصيدة، لكن أن يضع ليبرمان، درويش في مقابل هتلر، فهذا الخطاب ينتمي إلى الداعشية أو الهسترة الاسرائيلية، وهو شكل من أشكال جنون الهوية وشيطنة الآخر، كل خصم أو عدو لإسرائيل يُتهم باللاسامية والنازية... كل ذلك إشارة إلى أزمة الوجود والخروج على العقل لدى غلاة التطرف.

كثيرون قالوا إن ليبرمان لم يقرأ درويش، وهو يرفضه لمجرد أنه فلسطيني أو عربي... أسباب الهسترة الإسرائيلية من درويش ربما يكون أكثر مَن يعرفها هو الصحافي الإسرائيلي، جدعون ليفي، والذي يعرّفه موقع "وكيبيديا" بأنه يكتب مقالات تركز غالباً على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وهو محسوب على اليسار الإسرائيلي، يصفه البعض بأنه "صحفي بطل" واخرون بأنه "ناشر للدعاية" لحركة حماس. كتب ليفي في "هآرتس" أن روح محمود درويش "الشريرة" لن تتركنا أبداً.. "فمرة كل بضع سنوات يحدث هنا مشهد الشياطين حول قصائده، الأمر الذي يثير المشاعر ويصيب الإسرائيليين بالهستيريا الى أن يتم تشبيهه بهتلر، وبعدها يهدأ ويظهر مرة أخرى مجدداً. لا مفر من ذلك، فكل الأرواح الشريرة منذ 1948 لن تتركنا أبداً الى أن نعترف بذنبنا ونُقر بالخطأ ونتحمل مسؤوليته. نعتذر ونعوض".  يضيف ليفي: "لو كان الإسرائيليون على قناعة بأنه لم يكن هناك خطأ، وأنه لا يوجد جرح نازف، لما خافوا الى هذه الدرجة من قصائده. ولو كانوا على قناعة بأن كل شيء كان سليماً في حرب 1948 وأنه لا يمكن سير الامور بشكل مختلف، لكان درويش جزءاً من الوسط الأدبي".

لا غرابة في أن يكتب ليفي هذا الكلام. فقبل جنون ليبرمان من قصيدة "بطاقة هوية"، أعلن إرييل شارون، إنه يقرأ شعر محمود درويش، وأعجبه ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً"، وقال إنه يحسُد الفلسطينيين على علاقتهم الوجدانية بالأرض، وكما يعبّر عنها درويش خصوصاً. تصريحات شارون آنذاك كانت صادمة للرأي العام الإسرائيلي، ومستغرَبة في أوساط الميديا العربية: كيف لسفاح اشتهر بمجازره أن يكون مهتماً بالشعر العربي، وأن يحسد كلام محمود درويش؟ ما الغاية من ذلك؟ هل هي عقدة نقص أم قوة لغة الخصم؟

قبلها بسنوات أيضاً، وتحديداً في العام 2000، اقترح وزير التعليم الإسرائيلي آنذاك إدراج بعض قصائد درويش في مناهج التعليم الإسرائيلية الثانوية. لكن إيهود باراك، الذي كان رئيس الوزراء حينها، رفض متعللاً بأن الوجدان الإسرائيلي غير مهيأ بعد للتعرض لمثل تلك المداخلات العربية.

حتى في ذروة الصراع العربي الاسرائيلي، أثارت قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر"، والتي كتبها إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 8 كانون الأول/ديسمبر1987، غضب البرلمان الإسرائيلي. وقاد إسحق شامير، رئيس الوزراء وقتها، حملة ضد درويش، بمقطع طويل يشن فيه الهجوم على منظمة التحرير الفلسطينية، وأعلن فيه أنها "عصابات القتلة المنظمة"، وقال إن "درويش فضح منظمته وأهدافها في قصيدته"، وأنهم "لا يريدون السلام"، وأضاف: "كان بإمكاني أن أقرأ القصيدة أمام البرلمان لولا أني أربأ بأن أمنحها شرف تسجيلها في محاضر الكنيست".

قدمت الكاتبة الإسرائيلية سيمون بيتون في مقالها الذي نشر ضمن كتاب "فلسطين بلدي"، وترجم في مجلة "الكرمل"، بحثاً في قضية قصيدة درويش، تتعجب في البداية مما حدث وأثير من ضجة حول تلك القصيدة، وتقول: "ومن عجب أن الصحافة الإسرائيلية بدأت في الوقت ذاته (أي وقت الانتفاضة)، تهتم عن كثب بالشعر الفلسطيني، وبخاصة قصيدة محمود درويش، المستلهمة من ثورة الحجارة، ويستعيد فيها رموز تلك الثورة ويعبّر عن هدفها الرئيسي: إنهاء الاحتلال الاسرائيلي وتحقيق الاستقلال الفلسطيني". وتضيف بيتون: "وخلال أسابيع معدودة ظهرت مقالة، فمقالتان، ثم ترجمة، فترجمتان ثم أربع ترجمات، إلى أن كرّت السبحة بعشرات النصوص والمداخلات والرسائل والتوضيحات لتتشكل منها واحدة من تلك القضايا السياسية الإعلامية، التي يشغف بها الإسرائيليون، وعندما صارت موضع مبارزات خطابية في الكنيست، وارتفعت الأصوات الأولى في أوروبا والولايات المتحدة تتهم درويش بأنه شاعر إرهابي ومُعادٍ عرقيًّا لليهود وناطق بلسان القتلة ومثير للأحقاد العنصرية.. وسار الجميع (الاسرائيليون) خلف شامير وضد درويش.. وهكذا أمكن لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أن تصدر صباح اليوم التالي مانشيتاً تعلن فيه أن الكنيست يستعيد وحدته بفضل قصيدة".

ليس غلاة الإسرائيليين وحدهم من لديهم مشكلة مع حضور محمود درويش وشعره ولغته، هم جزء من موجة مصابة بلوثة القسوة والتخوين والاتهام والتشبيح... يوم رحل الشاعر، شَعَر بعض الإسلاميين بالبغطة والحبور. استعمل بعض الحمساويين كلمة "نفوق" بدلاً من موت! فهم لديهم من الحقد ما يكفي لجعلهم في خندق واحد مع ليبرمان. وجرّح بعض الممانعين في شخص درويش من منطلق علاقته بالنساء. وقبل ذلك كانت بعض الأقلام الرديئة تتهمه بالتطبيع لمجرد أنه يوظف رموزاً توراتية في شعره.

لا ضير في القول إن شعر محمود درويش يحتاج نقداً ودراسة وتشريحاً، سواء أحببناه أم لم نحبه. لكن المشكلة أن للبعض موقفاً عدائياً عدوانياً ضده. موقف لا يرتبط بشعره أو ظاهرته بل بشخصه، والأرجح أنه ناتج عن أزمات أصحابه قبل كل شيء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها