الأحد 2016/07/24

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

مهرجان بيروت لأفلام حقوق الإنسان: "الآخرون" المخيفون

الأحد 2016/07/24
مهرجان بيروت لأفلام حقوق الإنسان: "الآخرون" المخيفون
باتت بيروت غنية بإسهامات السوريين كتاباً وصحافيين وباحثين ورسامين وسينمائيين وموسيقيين ومسرحيين.
increase حجم الخط decrease
هي كلمات كبيرة، مهيبة: "كرامة"، "بيروت"، "الآخرون"، "حقوق الإنسان". منها جميعها يأتلف اسم مهرجان سينمائي. أي أن ثمة أفلام مجتمعة معاً، في صالة عرض واحدة، ببرنامج زمني مكثف، تقول وتقارب موضوعات سياسية وأخلاقية على هذه الدرجة من الحساسية والضخامة.


"كرامة بيروت" هو أول مهرجان لأفلام حقوق الإنسان في العاصمة اللبنانية، انعقد في دورته الأولى تحت عنوان "الآخرون" (صالة أمبير، سنتر صوفيل) أيام الخميس والجمعة والسبت (21-23 تموز الحالي). ومن أجل تنظيم المهرجان وتحقيقاً لغايته، كان تأسيس جمعية "المعمل 961 للفنون" (هيثم شمص، مدير المهرجان، ونجوى قندقجي، مديرة البرامج، وكرمة سويركي، منسقة المهرجان). والفكرة ابتدأت أولاً في الأردن، مع "مهرجان كرامة عمّان لأفلام حقوق الإنسان" قبل ست سنوات.

لذا، كانت الانطلاقة بالتنسيق مع المهرجان الأردني وجمعيته "معمل 612 للأفكار"، بالشراكة مع برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، والسفارة السويسرية في بيروت، ومهرجان Movies that matter الهولندي، والصندوق العربي لحقوق الإنسان.

الجمعية "المعمل 961 للفنون"، التي نظمت المهرجان، تشكل واحدة من شبكة "أنهار"، المؤلفة من جمعيات عربية رديفة (الأردن، المغرب، تونس، السودان، سوريا، مصر، فلسطين، ولبنان)، تتعاون سوية لتنظيم مهرجانات أفلام تُعنى بموضوعة "حقوق الإنسان"، وتسليط الضوء على الأعمال السينمائية الرافضة للعنصرية وخطاب الكراهية والتمييز والظلم.

هي تجربة أولى، في الصالة البيروتية "أمبير – صوفيل"، المفضلة لإقامة مهرجانات السينما، حيث الجمهور الشبابي الذي اعتاد المكان وألفه. وفيه تم عرض 16 فيلماً، تصور وتقول وتنظر وتخدم قضايا "كائنات الهامش"، وتسلط الضوء على حقوق العمال، ومسائل العنصرية والتمييز والنبذ والاستغلال والرقابة، والحريات، والحدود، مع حضور واضح وقوي للمأساة السورية.

اختار القائمون على المهرجان أفلاماً "ملتزمة"، تعرّف الناس على ثقافة حقوق الإنسان، خصوصاً تلك المتعلقة بالهجرة وحق اللجوء الإنساني أو السياسي، والقمع والترحيل وإساءة معاملة الأطفال، بالإضافة إلى عقوبة الإعدام والإشكالية الحقوقية حولها، والفقر والنبذ الاجتماعي، إلى الحرب والنزاعات وحقوق العمال والعاطلين عن العمل، وكذلك الصراع العربي الإسرائيلي.. وحتى حقوق المصابين بفيرس "سيدا" وحقوق المثليين، وأيضاً القضايا الجندرية وحقوق النساء، والاتجار بالبشر، واضطهاد الأقليات وحريات التعبير والإعلام، والسجن والتعذيب، إلى سائر الحقوق المدنية والسياسية، والمواطنة وبناء الديموقراطية.

قبل بدء المهرجان بيوم واحد، وفي تلك الناحية من بيروت بالذات، شهدنا تظاهرة لناشطين من المجتمع المدني، ضد العنصرية المتفاقمة في لبنان، وبالأخص تلك الممارسة ضد السوريين. بهذا المعنى، المهرجان السينمائي البيروتي اتخذ بُعداً أوسع في ضرورته، وفي اشتباكه الموضوعي مع السجال المندلع في الفضاء العام، حول "اللاجئين السوريين". حتى أن كلمة مدير المهرجان هيثم شمص بدت وكأنها البيان السياسي المناسب لتلك التظاهرة المدنية، إذ قال فيها: "إذا كان الطغاة يجلبون الدمار والاحتلال والحروب المذهبية، تحت عنوان الطاغية أو حرق البلد، ويجهّلون المجتمعات لتبقى طيعة لهم، تشكّل هذه المجتمعات المخطوفة من حقها في العلم والكرامة والرفاه أفضل بيئة لنمو الإرهاب والتطرف (...) ما أحوجنا اليوم إلى ما يعيد إلى الواجهة حق الإنسان كإنسان، في ظل هذه الدعوات الجمعية التي تعصف بمجتمعاتنا وتعصف أيضاً بالعالم بأسره، محذرة من الآخر لكونه مجرد آخر، وناسبة إليه ما يجتمع في معاجم الأوصاف السيئة، لا لشيء سوى لكونه آخر يهدد الجماعة وأصنامها وطواطمها، ما يجعل مجتمعاتنا على حافة براكين الحروب الداخلية...".

إذاً، من الواضح أن المهرجان لم يكن حدثاً فنياً وحسب، بل هو فرصة ومنصة ومنبر يستثمر الفن السينمائي والأفلام كوسيلة تحريض وتفكير في قضية أساسية، وربما مصيرية، تفرض نفسها اليوم على اللبنانيين. السينما هنا هي "أداة" أبعد من غايتها الجمالية، في خدمة "التوعية" ومن أجل التبشير والحث على الفعل والتغيير، والتأثير على أفكار الناس ومواقفهم، خصوصاً منهم حاملي التصورات النمطية، التمييزية والعنصرية.

هكذا تتوضح فحوى شعار الدورة الأولى للمهرجان: "الآخرون". فإذا كان ثمة "آخرون" في لبنان راهناً، على نحو يطرح على اللبنانيين ويسائل فيهم معنى الكرامة (الإنسانية) والحقوق، أخلاقياً وسياسياً، فهم "السوريون" عموماً، واللاجئون أو النازحون منهم خصوصاً.

صورة "الآخرين" في لبنان هي أولاً صورة "اللاجئ السوري". وقد لجأ المهرجان إلى مقاربة هذا الموضوع، على نحو مباشر وصريح، ولم يكتف بالأفلام، فنظم ندوة بعنوان "العنصرية واللاجئين في لبنان" شارك فيها الباحث السوري حسان عباس، بورقة بحثية عن "الصورة النمطية وأطرها الثقافية" مبرزاً الميل عند معظم اللبنانيين إلى تنميط السوريين في صور سلبية، فاقعة في عنصرية، ومورداً تجارب السوريين مع الصور النمطية عنهم في الحياة اللبنانية اليومية. الحقوقي اللبناني نزار صاغية استفاض مطولاً في كشف "السيستام" الحقوقي والقانوني والسياسي والأمني الذي يكرس كل أنواع التمييز والعنصرية تجاه كل "آخر" غير لبناني (من عاملات المنازل إلى الفلسطيني إلى العراقي فالسوري وغيرهم..)، وقدمت الخبيرة في سياسات التنمية، اليمنية رشا جرهوم، ورقة عن اليمن ومشكلات التمييز الطبقي والقبلي والعرقي والمناطقي التي شابت تاريخ هذا البلد وتحولاته السياسية، خصوصاً بعد الوحدة، ثم أثناء الثورة.

يطمح المهرجان، إلى أدوار خارج إطار العرض في صالة بيروتية، إذ هو سيحمل برنامجه وعروضه وثيمة ندواته، مع الناشطين وأعضاء الجمعية إلى جامعات لبنانية في مناطق مختلفة، وسينظم نقاشات عامة مع طلاب لبنانيين وغير لبنانيين. عدا عن تنظيم عروض في مخيمات اللاجئين في لبنان، مع وضع برنامج متعدد النشاطات والأدوات تستهدف القاطنين في تلك المخيمات، ويتضمن مسرحاً تطبيقياً وورشة عمل لـ"العلاج بالدراما" من أجل توفير فرصة للكشف عن قصص اللاجئين وتجاربهم الشخصية والعائلية والحميمة.

تسنى لنا مشاهدة فيلم الافتتاح "منازل بلا أبواب" للمخرج السوري الأرمني آفو كابريليان، الذي يصور وقائع متشتتة تحدث في حي الميدان، حيث تقطن أسرته، كما مجموعات كبيرة من الأرمن في حلب، فيركز المخرج كاميرته على شرفة منزل العائلة المطلة على الشارع، مصوراً التغيرات التي شهدها الحي على مدى ثلاثة أعوام من الحرب (2012 – 2015).

اليوم التالي ابتدأ بالفيلم الألماني الروائي القصير "كان يمكننا، كان علينا، لم نفعل" (ديفيد لورينز) وهو عبارة عن تحفة صغيرة من 11 دقيقة مفعمة بالأحاسيس البدائية المواربة: الخوف والحب والغيرية. وبعد الندوة، كان عرض فيلم "أرق" للبنانية ديالا الأشمر، التي "تغامر" بكاميرتها لتصور بعضاً من سيرة شبان "حيّ اللجا" في بيروت، ذات الأغلبية الشيعية. وانطوت أمسية هذا اليوم على عروض لأفلام تحريكية قصيرة هي: "الركض إلى الوراء" (آيسيه كارتال، فرنسا – تركيا)، "عشاء للبعض" (ناسوس فالكيس، اليونان – أميركا)، "موت الضوء" (عامر الشوملي، فلسطين)، "جنة المغفل" (حسام إسماعيل، فرنسا – بريطانيا – الأردن)، "الفالس الميكانيكي" (جوليان ديكمانس، فرنسا – بلجيكا) لتختتم بالفيلم الوثائقي للإنكليزي شون ماك أليستر "قصة حب سورية".

اليوم الثالث والختامي كان للتعريف بمشروع بعنوان "سفريات السينما" كاستعادة افتراضية لزمن التواصل والسفر البري بين بيروت ودمشق وعمان والقدس، مع مجموعة من الأفلام تتناول حال الحدود المغلقة بين البلدان العربية، خصوصاً بين لبنان وسوريا والأردن. لهذه الغاية عُرض للمرة الأولى فيلم "أصوات من الظل" لديمة الجندي، الذي يروي قصة ثلاثة فنانين سوريين يعيشون حالياً في لبنان، ويعملون في دبلجة المسلسلات التركية والموسيقى واشغال أخرى، في بلد لا يشعرهم بالاستقرار، ولا يخفف عنهم وطأة الحنين، وعلى حيرة مريرة من الهجرة إلى أوروبا أو البقاء في بيروت. بعده كانت أفلام "حب في الحصار"، للسوري مطر إسماعيل، و"سايبة" لباسم بريش الذي يروي قصة بقرة تعبر الحدود من إسرائيل إلى لبنان. والنهاية الختامية مع فيلم الفنلندي أرتو هالونن، "الغضب الأبيض"، الوثائقي الدرامي.

يمكن القول، أن تلك التظاهرة في الشارع ضد العنصرية، وهذا المهرجان "المتخصص"، وبعض الإعلام اللبناني غير المخجِل، والكثير من الجمعيات الأهلية والمدنية والمؤسسات، وتجمعات الناشطين، والدوائر الثقافية والفنية اللبنانية وأفراد كثر، يشكلون جميعهم "حملة" مضادة على أولئك الذين يصنعون اليوم أسوأ صور لبنان العنصري، وينمّون في المواطنين أسوأ ما فيهم من مخاوف وكراهية وتمييز وأوهام وأحكام مسبقة ضد كل "آخر".

من هذا المهرجان وأفلامه، ومن صالات معارض الفنون التشكيلية، ومن صفحات الكتب التي تطبع في بيروت ومن صحفها ومن مسارحها ومن تلفزيوناتها ومن حفلاتها الموسيقية ومن منابر ووسائط كثيرة، تتبدى لنا كم باتت بيروت غنية بإسهامات السوريين كتاباً وصحافيين وباحثين ورسامين وسينمائيين وموسيقيين ومسرحيين. وهذا ما لن يراه الذين تعميهم عنصريات شعبوية وفاشية وطائفية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها