الخميس 2016/05/12

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

حريق القاهرة 2016.. عصور التحول تبدأ من العتبة!

الخميس 2016/05/12
increase حجم الخط decrease
في أعقاب المواجهات التي تمت بين الفدائيين المصريين والقوات البريطانية في مدينة الإسماعيلية غداة إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية وقع "حريق القاهرة" في 26 يناير 1952 لأسباب ما زالت غامضة حتى الآن.


أُحرق يومها كل ما يمثل السيطرة الغربية في وسط المدينة، أو ما يسمى بالقاهرة الإسماعيلية (نسبة للخديوي إسماعيل). وفى غضون ساعات، أضرمت النيران في ميدان الأوبرا وشارع الجمهورية، وشارع فؤاد (26 يوليو الآن) وشارع عدلي وعبد الخالق ثروت وقصر النيل وميدان مصطفى كامل وشارع سليمان باشا وشارع شريف وعماد الدين والبستان والبورصة والتوفيقية وميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير الآن). استهدف الحريق، القاهرة الإسماعيلية كلها، بمبانيها البديعة وعماراتها الأوروبية ذات الطراز المعماري الفريد.

ورغم أن الحادث ما زال لغزاً حتى الآن، إلا أن مصادر تاريخية عديدة أجمعت على أنه كان مدبرًا وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، وكانت على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وعلى درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كُلِّفت بها.

قُدّرت حصيلة الخسائر التي خلفها الحريق في نحو ست ساعات، 13 فندقاً، و40 دار عرض سينمائي منها ريفولي ومترو وراديو وديانا وميامى، و73 مقهى منها الأمريكين وجروبي، و16 نادياً، وأكثر من 300 محل تجاري منها سلسلة المحال اليهودية: شملا وشيكوريل وداود عدس. حُرقت بارات وبنوك ومعارض سيارات، الأمر الذي شل جهاز الإطفاء، ضعيف الحيلة، قليل الإمكانات، وقتها.

وقدّرت الخسائر البشرية بحوالى 36 وفاة، وإصابة أكثر من خمسمئة بجروح مختلفة وتشريد آلاف العاملين في المنشآت المحترقة. أما الخسائر المادية فقدّرت بنحو مليون جنيه، وهو رقم ضخم بمقاييس الزمن. أما نتائجه السياسية فكانت أفدح، إذ قادت إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فأقيلت آخر حكومة وفدية، وعجلت بحركة الضباط الأحرار في 23 يوليو.. عُزل الملك فاروق وأعلنت الجمهورية وتغير وجه القاهرة للأبد.

الآن تخوض المدينة تجربة شبيهة وفى المنطقة نفسها تقريبا؛ مجموعة حرائق مريبة ومتتالية بدأت قبل أيام باحتراق فندق "الأندلس" بشارع الرويعي بمنطقة العتبة، وبعدما أعلنت الحماية المدنية السيطرة على الحريق، اكتشفت انه تجدد وانتقل إلى مبان مجاورة، والتهم 200 مخزن مواد بلاستيكية وأقمشة، قتل ثلاثة مواطنين وأصيب 77، إلى جانب الخسائر المادية التي قدرت بخمسين مليون جنيه.

ولم تهدأ نيران العتبة حتى اشتعلت الغورية، وأتت على مجوعة أخرى من المحال والمخازن، في المنطقة التجارية الأكثر ازدحاما في القاهرة.

الحكومة تتهم الباعة الجائلين، وهم بدورهم يتهمون الحكومة، "القاهرة تحترق" يكتب المتابعون في "تويتر" و"فايسبوك"، الأزمة ممتدة والفاعل مجهول، والأسئلة محيرة وكثيرة.

عقب ثورة يناير وبعدما فشلت الحكومة في السيطرة على تمدد الباعة الجائلين في وسط المدينة، قررت المحافظة توطينهم في المدينة، فأعلنت عن خطة يتم بمقتضاها تحويل شارع الألفي بمنطقة التوفيقية إلى "باكيات" للباعة الجائلين، وتخصيص منطقة الشريفين في وسط القاهرة الواقعة بين شارع قصر النيل وصبري أبوعلم وشارع شريف للغرض نفسه!

الخطة كانت ستقضي على ما تبقى من القاهرة التاريخية، ولم تنفذ بالطبع بعد ضغوط كبيرة، والآن تعلن الحكومة عن خطة مماثلة لإخلاء العتبة والموسكي وإعادة تخطيط المنطقة بالكامل، وهو ما يؤكد الشكوك التي تلمح إلى خطة تهجير يعقبها نقل الملكية إلى مستثمرين كبار، وهو ما قاله الباعة صراحة، مؤكدين أن الحرائق جزء من مخطط مرتبط برؤوس أموال مصرية وعربية تهدف إلى الاستيلاء على مناطق حيوية في قلب القاهرة.

مقولات الحكومة عن إعادة هيكلة المنطقة ينسفها منطق القاهرة نفسه إن جاز التعبير، فتوضح د.جليلة القاضي، مديرة الأبحاث بمركز الأبحاث من أجل التنمية في فرنسا، في كتابها عن العشوائيات، أن القاهرة تظل نموذجاً فريداً لأنها ألغت الحدود بين المدينة العشوائية والمدينة المُنشأة أو المخططة، فالفوضى التي تعم المدينة المُخططة وعمليات إعادة هيكلة المدينة العشوائية نتج عنها نوع من التجانس الحضري، فالاستيلاء علي الفراغات العامة وانتشار الأنشطة التجارية بين الفراغات التي تفصل بين المباني من شأنه أن يقارب بين السمات العمرانية لحي كالمهندسين وجاراتها العشوائية! وبذلك أصبحت المدينة عبارة عن "متصل عشوائي" يمتد من المركز حتى الأطراف. وبالتالي فإن مفهوم "العشوائية" في مقابل "التخطيط" يصبح، في القاهرة، ضرباً من الخيال أو مفهوماً نظرياً لا يطابق الواقع. فلسنا، في حالة القاهرة أو المدن المصرية، أمام منهجين متناقضين، بل يحتوي كل منهما سمات الآخر.

لكن من ناحية أخرى فالمباني المتبقية في القاهرة الخديوية لا يمكن أن تحتمل ما يحدث الآن، وما يمكن أن يتطور مستقبلا، لأن الكثير منها يستخدم كمخازن للمحلات التجارية الموجودة في المنطقة، واحتراقها هو المصير المنتظر إذا لم تتم السيطرة على الوضع.

معظم مباني تلك الفترة كان علي الطراز الكلاسيكي المغطى بزخارف متكررة، ومنطقة "وسط البلد" تضم الآن أبرز النماذج المعمارية التي استقدمها الخديوي إسماعيل من الخارج، في فترة أحدث فيها إسماعيل أكمل وأجمل تطوير حدث للقاهرة، خصوصاً أن محمد علي لم يكن يهتم بالعمران وكانت لديه اهتمامات أخرى على رأسها الاقتصاد والصناعة وبهما وضع أساس مصر الحديثة. أما إسماعيل فقد وضع جل اهتمامه في العمران وخصوصاً شرق المدينة -منطقة وسط البلد الآن- لأنه أراد أن يظهر أمام ضيوفه أثناء الاحتفال في افتتاح قناة السويس بمظهر أوروبي، واستعان بمهندسين أوروبيين لتنفيذ الطراز الأوروبي الذي أراده في منطقة القاهرة الجديدة.

اللافت أن العتبة تأتي دائما في الكتابات التاريخية كأبرز تعبير عن "عصر التحولات". فكما يوضح المؤرخ، أيمن فؤاد سيد، المدينة كانت تتغير ببطء حتى بدأت المنطقة الواقعة غربي الأزبكية تزخر بالمباني التجارية، فانتقل وسط المدينة التجاري إلى هذه المنطقة. ومع استمرار نموها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان لا بد من تطوير ميدان العتبة الخضراء الذي يفصل بين المدينة القديمة والحديثة، فاتخذ قرار في العام 1923 بفتح طريق يربط العتبة بالأزهر شرقاً، وآخر يربطها بشمال المدينة. وبعد هدم المحكمة المختلطة التي كانت تشغل قسماً من سراي العتبة الخضراء التي أقامها عباس باشا الأول لوالدته، وضم أرضها للميدان، نتج ميدان العتبة الخضراء واكتمل في افتتاح شارع الأزهر وشارع الأمير فاروق (شارع الجيش الآن) وأصبح الميدان مركزاً لالتقاء خطوط الترام، ويتفرع منه عدد كبير من الشوارع الرئيسية: شارع عبد العزيز، وشارع محمد علي، وشارع الأزهر، والموسكي، وتطل عليه مجموعة من المباني المهمة، منها البوستة والمطافئ، ومسرح الأزبكية، وبالطبع دار الأوبرا التي احترقت في ما بعد، وحل محلها حاليا "جراج" قبيح.

تحولات كثيرة جرت، وتغير وجه المنطقة مرات، لكن الأثر التاريخي الأول للقاهرة يبقى في المدينة القديمة نفسها.. التي تتآكل الآن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها