الجمعة 2016/04/29

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

المثقف والسلطة.. الحدوتة مستمرة

الجمعة 2016/04/29
المثقف والسلطة.. الحدوتة مستمرة
وتظل حكاية المثقف والسُلطة صالحة "كحدوتة" لكل العصور (غيتي)
increase حجم الخط decrease
1
ترددت وأنا أقول لأحدهم، إنني مؤمن بأن الأصل في الموضوع هو وجود أي مثقف أو مبدع على يسار أي سلطة. وجوده على يمينها يتناقض مع قوام الفنان الطامح طوال الوقت لما هو أفضل من الأمر الواقع، حتى لو كان هذا الأمر الواقع مرضيًا بشكل أو بآخر.

ترددت شعوراً بأن الفكرة باتت قديمة، وأن ما أقوله بات في خانة الكليشيه. غير أن الواحد يجد نفسه، مؤخراً، في حاجة إلى إنعاش مواقفه من الأمور، بعد ما رأى بين المثقفين من لا يزال جالساً إلى طاولة السياسي مُستسلماً للتفاوض. يحسب الحسابات ويضع في اعتباره الجو العام. ومنذ بات بينهم من يقرر ألا يُعلق على أحكام القضاء في قضية رأي، وحبس روائي بتهمة "خدش الحياء". منذ صار للبعض أسباباً، يراها منطقية، للدفاع عن السُلطة.

لا أقصد المستفيدين من التقرب للسلطة، هؤلاء خارج التفكير. أقصد أصحاب القناعات بضرورة الاصطفاف الوطني في مواجهة أهل الشر الكونيين والمتآمرين على أمن البلاد من داخل الكوكب وخارجه، ليقطعوا علينا طريقنا إلى مكاننا الطبيعي بين بلدان العالم الأول. ذلك المبدع المقتنع بأن هناك سلطة مُحترمة تستحق تبني خطابها.

وأنت تجد أنك مضطر إلى تذكير نفسك على الأقل: هذا ليس دورك. طبيعتك وأحلامك. معركتك مع العالم لا يلائمها منضدة السياسي، والتفاوض والقبول بما هو متاح.

2
"عودة الانتلجنسيا"، عنوان دراسة كبيرة نشرتها "أخبار الأدب"، منذ سنوات طويلة، للدكتور حسين عبد العزيز، وهو باحث ليس ذائع الصيت. قليلون يعرفون شيئاً عن قرابة تجمعه بنجيب محفوظ.

و"الانتلجنسيا"، كلمة تعبر عن المثقف صاحب التفكير النقدي، وفي مفهوم آخر: الذي يقترب من الشعب ويبتعد عن السلطة.

يتكلم الباحث عن التجربة الروسية في علاقة المثقف بالسلطة في القرن الـ19:
"عندما نشأت فئة من المثقفين ذوي العقلية النقدية، متباعدين عن السلطة، وقريبين من الشعب، استطاعوا توفير المناخ الملائم وخلق العصر الذهبي للثقافة الروسية فى كل المجالات، وظهرت ألمع الشخصيات فى التاريخ الروسي والعالمي فى ظل أسوأ حكم عرفته روسيا وأكثره استبداداً، وهو حكم القيصر نيقولا الأول، وأصبحت روسيا القيصرية التى كانت سجن الشعوب، فى طليعة الثقافة والفن والأدب، ولم تمر سوى بضع سنوات حتى ظهر بها مبدعون عظماء، مثل تولستوي، بوشكين، دوستويفسكي، وتشايكوفسكي".

ببساطة، السلطة لا تحتاج إلى من يدافع عنها، لأنها باعتبارها الأقوى تستطيع الدفاع عن نفسها. أندهش من حديث البعض عن الأدب أو الفن المنحاز للأضعف، وهو فعلياً يدافع عن القوي.

المسافة الفاصلة بين المثقف والسلطة، معيار مهم في ازدهار الثقافة، أو عدم ازدهارها.

3
في الأيام الأخيرة لـ2013، وبعدما شارك عدد لا بأس به من أبناء الجماعة الثقافية في اعتصام الوزارة الشهير، والموجة الثانية للثورة في 30 حزيران/ يونيو، وقف بعضهم ملتفتاً لما أضاعه من وقت، واستهلاك نفسه في شأن لا يلائمه فيه دور القائد، وأن ما يأمله من الحياة لن يتحقق بمشاركة السياسي اعتصاماته وإضراباته فقط. قالها لنفسه بضمير مرتاح، بعدما عمل ما عليه كمواطن في مواجهة سُلطتين قمعيتين.

هناك من رأى أن المسائل صارت أفضل: "علينا التفرغ للكتابة والفن، أرضنا الأصلية". وهناك من هو غير معجب بما آلت إليه الأمور، ورأى أن لا أمل في الأفق: "دعها لهم يفعلون فيها ما يشاؤون".

غير أن فريقاً آخر لم يستطع الابتعاد، بعدما تذوق بريق المشاركات العامة، و"ترافيك" التصريحات السياسية. وبقى قليل من الصادقين، المبتعدين لكنهم على أطراف أصابعهم استعداداً لتقديم ما يمكن تقديمه.

4
"المبدع الحقيقي في حالة ثورة مستمرة". عبارة كلاسيكية، أجبت بها صديقة في دردشة حول العلاقة بين المثقف والمبدع، وبين الشارع بثوراته وأحداثه السياسية وتطوراته المدهشة.

بعد قليل يحيلني التأمل إلى أننا بصدد العودة إلى تلك الأفكار، التي كان الواحد تصور تجاوزها منذ زمن. المشاهد تقلب بعضها، وتكتشف انسحابك وراء مناقشة ما ظننته في حكم المحسوم.. نحن نذهب ونأتي، وتظل حكاية المثقف والسُلطة صالحة "كحدوتة" لكل العصور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها