السبت 2016/02/06

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

"مارغريت"... لماذا لا نستطيع جميعنا الغناء؟

السبت 2016/02/06
increase حجم الخط decrease
يقول الفيلسوف جورج ديكي إن "أي شيء يمكن أن يكون عملا فنيا اذا قال أحد إنه كذلك"، ويضيف: "مجرد قول شيء يمكن أن يحدث شيئاً في العالم. ففي الأفعال الكلامية لا يقتصر المتكلم على وصف حالة، لأن المتكلم يخلق تلك الحالة في فعل النطق بتلك الكلمات. وبهذا المعنى يمكن أن يكون للفعل الكلامي المعلن عن أن شيئا هو عمل فني نتيجة "أدائية" تخلق حقيقة إعلانه"(*)...


يعبّر كلام ديكي بشكل جزئي في هذا المقطع، عن الحالة التي قدمها الفيلم الفرنسي "مارت" لكزافييه جيانولي الذي عرض في سينما ميتروبوليس صوفيل. تجري أحداث الفيلم في فرنسا بداية القرن العشرين ويخبر قصة مغنية أوبرا عجوز تتمتع بثروة هائلة، تمكنها من رعاية أحد الأندية الغنائية. تقتنع المرأة بقدرتها على غناء الأوبرا بالرغم من أدائها السيئ الذي يعجز أي شخص عن مصارحتها بحقيقته.

كان يمكن للمرأة أن توفر عناء الأقربين إليها وتعرف حقيقة صوتها السيء في حال سمعت تسجيلاً لها. فالمغني، بحسب أحد شخصيات الفيلم، يعجز عن سماع صوته في العادة وهو يُؤخذ بتلك الطاقة التي يقدمها له الغناء والتي تمنعه من تمييز صوته الحقيقي. مر معظمنا غالبا بمرحلة ما ظننا فيها أننا نمتلك اصواتا جميلة، وقد انتهت على الأرجح عندما استمعنا الى أصواتنا مسجلة عن طريق الكاسيت أو الهاتف أو ربما ببساطة، يوم أعلمنا أحدهم عدم امتلاكنا موهبة الغناء "الفريدة".


لم يحدث هذا مع مارغريت التي قوبل غناؤها السيء بحفاوة الحاضرين، كما أن آلات التسجيل يومها كانت لم تزل في بداية تطورها التكنولوجي ولم تكن متوفرة كي تتأكد المرأة من معرفة حقيقة ما تغني. بالإضافة لذلك لم تكن المرأة بحاجة للتأكد طالما أن أعضاء النادي الغنائي تواطؤوا مع زوجها من أجل استمرار الحصول على الدعم المادي منها، قد أعلموها بأنها تحوز على موهبة تمكنها من الغناء.

حصلت المرأة من خلال هؤلاء على "الإعتراف" الذي يحتاجه أي مشتغل في المجال الإبداع. وكما ذكر عاصم بدر الدين في مقاله "دفاعاً عن الكثرة في الكتّاب"، أن الكتّاب لا يصبحون كتّاباً إلا حين يقول عنهم الناس، وهم جمهورهم الضيق والمحدود (الجمهور الشخصي) بالضرورة، أنهم كتّاب". ينطبق كلام بدر الدين هنا على المشتغلين عامة في المجال الفني بمن فيهم المطربين والمطربات. هذا الإعتراف، حتى ولو قدمته مجموعة صغيرة، يبدو ضروريا لإعطاء الفنان ثقة من أجل الإستمرار والطموح من أجل اعتراف أكبر، وما ينطبق بالتالي على مسيرة مارغريت الغنائية، التي أصرت على استكمال مشوارها في محاولة للوصول الى النجومية.

في أحد مشاهد الفيلم يتسلل ناقد فني مع صديقه الأناركي الى احتفال النادي الغنائي طامحين لسماع ما قيل أنه مهزلة مارغريت الغنائية. نتفاجأ بعد مرور وقت بإعجاب الرجل الأناركي بغناء مارغريت، ويبدأ بإطلاق صفات مثل الجنون والبرية على أدائها. لا ينفصل هذا عن انتماء الرجل للتيار الأناركي والطامح الى تحطيم قواعد الجمال التقليدية، وطموحه النظري يجده في صوت المرأة "المتحرر".

وبالعودة لجورج ديكي: "كي يقر أحد بأن شيئاً ما هو عمل فني، فلا بد أن تكون للمتكلم سلطة مؤسسية، وعليه أن يصدر اعلانه في وضع معترف به مؤسسياً". هذا ما كان لينطبق على الشاب الأناركي لو أن الأخير كان يحوز على سلطة ما في مجاله، وما كان بالتالي سيترجم اهتماما من دائرة من الفاعلين الثقافيين، وهم في هذه الحالة أناركيون ما كان سيحول أداء مارغريت السيئ الى أداء جميل بمعاييرهم.

صوّر الفيلم العام 2015 وهو مقتبس عن قصة حقيقية لمغنية أميركية عرفت بغنائها السيء واسمها فلورنس جينكيز، وكانت فاعلة في الفضاء الفني في نيويورك بداية القرن العشرين. أدت المرأة يومها حفلات في أمكنة صغيرة ولم تغنّ أمام جمهور كبير سوى لدعوات خاصة. وصف البعض غناءها بالغموض، كما أنه لاقى استحساناً من قبل بعض المستمعين والأصدقاء الذين شبهوا غناءها بأصوات الطيور.

تثبت قصة المرأة والفيلم أن الغناء ونوعيته يعتمدان أولاً على الوسط الإجتماعي الذي يؤدي فيه المغني، وبأن الحكم على قيمة أداء معين في النهاية ليس سوى انعكاس لشبكة من العلاقات التي تحدد مصير هذا الصوت إن كان جميلاً أم لا. يمكننا على سبيل المثال وضع أعظم مغنيات اليابان التقليديات أمام جمهور فرنسي. ستكون النتيجة كارثية بالطبع، وذلك على الرغم من اعتراف دوائر فنية واسعة في اليابان بعظمة المغنية، لكن هذا الإعتراف لن ينفع في فرنسا بسبب تغير الوسط الإجتماعي. يمكن اعطاء مثال لبناني هو أداء الفنانة ياسمين حمدان، التي أدّت أغاني أسمهان وليلى مراد بطريقة تقترب من النشاز. فحمدان وعلى الأرجح ان عادت لذلك الزمن، كانت ستثير استهزاء المستمعين بسبب الإختلاف في تقدير حكم القيمة بين الأوساط الإجتماعية، يومها، وأوساط الآن، التي وبفضل تيارات "ما بعد حداثية"، ساهمت في تقديم الإعتراف بالنشاز في الغناء، وبالتالي ما سمح بشهرة حمدان او مغنين آخرين غيرها.. وكان يمكن لمارغريت ان تكون واحدة منهم لو ولدت في زمن مختلف عن زمنها ذلك.


(*) من كتاب أوستن هارينغتون "الفن والنظرية الإجتماعية" - مركز دراسات الوحدة العربية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها