الجمعة 2016/02/05

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

صراع الأجساد والسيارات في "ساحة ساسين"

الجمعة 2016/02/05
increase حجم الخط decrease
هل تحظى الأجساد بأمكنتها في بيروت؟ هل تتنقل على ما تنتج من حركة؟ ولما تظهر بلا وجه أو يد، بلا دخولها في نظامي التعارف والتبادل، هل تقدر على الحضور؟ تستند سلسلة "خريطة الأجساد في بيروت" الى هذه الأسئلة وغيرها، لكي تحاول النظر في أحوال الجسد وأوضاعه في المدينة.
هنا الحلقة الأولى منها عن المارة في ساحة ساسين وعن أجسادهم  خلال عبورها في إزاء السيارات وسعيها الى اقتسام الفضاء معها.


عندما تدخل "ساحة ساسين" الواقعة على تلة الأشرفية، وفي قلبها وقت النهار، تنشب في أرجائها رحى الصراع بين السيارات والمشاة، فالطرفان يريدان التقدم في عبورهما من جانب إلى آخر. ولأن مجال حركة كل منهما موزع على تسع طرق، متفاوتة الإنفساح والضيق، غالباً ما لا يستقيم المشهد الذي يضمهما على انتظام وتناسق. فلا تتوقف السيارة، وفي إثر إشارة السير الحمراء، سوى على انزعاج سائقها كي يمر الماشي قبالة عينيه، ولا يتجمد الماشي في جوار إشارة السير إياها، وبعد أن تستحيل خضراء، سوى على ترقب كي تسير المركبة أمامه.

للسيارات في "ساسين" حظوة أكبر من منزلة المشاة، إذ تتهندس الساحة على وقع المركبات لا على وقع المارة. لكن ذلك لا ينفي أن الإثنين لا ينقطعان عن السرعة والبطء بحسب اقترابهما وابتعادهما عن بعضهما البعض. فتتبارى الأجسام الآلية، والأجساد العابرة، في الإستيلاء على المواضع، وفي إنتاج عبورها إلى محلات أخرى، قبل الإنصراف من الساحة، أو بالأحرى النزول منها.
كيف يحوم الصراع على أرجله ودواليبه في "ساسين" ابتداءاً من أجساد المارّة؟

إحراز الصدفة
لا يمكن تحديد الجهات والسبل، التي يصل المارة عبرها ومنها إلى الساحة، على أساس الطرقات والشوارع التي تسلكها المركبات. فالمُشاة يأتون إلى "ساسين" من كل نواحيها، وما إن يظهروا فيها حتى تشي ملامحهم بأنهم يرغبون في مفارقتها إلى دواخلها، كأنهم طارئون عليها، أي ليسوا من المتمكنين بها. إلا أنهم، ولكي يتمموا رغبتهم، يتحركون وفق حركة السيارات حولهم، ساعين إلى تجنبها، وفي الوقت نفسه، إلى ترصد توقفها، أو إحجامها عن التقدم، بالإضافة إلى ابتعادها، من أجل أن تحملهم أجسادهم من مكان إلى آخر. ذلك، أنهم، وفي أغلب مواقفهم، ليسوا بعرضيين فحسب، بل إن عرضيتهم، ومن جراء الزحمة، تحل متأخرة عن وقت الساحة، وتالياً، يسرعون كي تقع صِدفة وجودهم في أوانها، وهذا ما لا يستطيعون إحرازه.

يحث المارة أجسادهم على أن تستعجل في عبورها، علّها تحضر في "ساسين" من خلال الإنقطاع عن هياكل المركبات، فلا تتأثر بها، أو تنصاع لبغيتها، أي التقدم دفعةً واحدةً. فسائقو السيارات يريدون المرور أيضاً، وهم يتذمرون في حال مضى حتى ولو أقل من دقيقة على توقفهم في أمكنتهم، لا سيما أنهم، في هذه اللحظات، لحظات انتظارهم الضوء الأخضر، يتفرجون على السيارات الأخرى التي تجتاز الطريق أمامهم. وعلى هذا النحو، لا يبغون من إشارة السير أن تُبطئ حركتهم، مثلما لا يبغون أن يلبثوا في تخوم الحركة لكي يتيحوا المرور للمشاة. لذا، يطلقون أصوات زماميرهم كأنهم يحتجون على إشارات المرور وأجساد السائرين على حد سواء.

وللزمور وطأة على جسد المارّ، يصيب كل عابر، ويدفعه إلى الإسراع في المشي، أو في تحويل هذا المشي إلى عبور على وجه الدقة. فمطلقو الأبواق يرمون بها على أجساد المُشاة كي يعجلوا في مرورهم، ولا يبطئون، ولأن هؤلاء هم، ببلوغهم الساحة، رهط من المتأخرين الذين يحاولون التمكن من وقت "ساسين"، فيأتي الزمور لينهي مسعاهم. فإذا كان مسار الجسد في الساحة ينطلق من الظهور إلى المشي ثم المرور، غالباً ما يقع صوت البوق في وسطه، فيعطله، ويدفع سالكه إلى الانتقال من مرحلة الظهور المصادف إلى مرحلة العبور المباشر. لذلك، وفي الكثير من الأحيان، لا يجد المارة مناصاً من الظهور كمارة فقط، بحيث أنهم لا يمشون بل يعبرون فقط. وفي حال لم يقدروا على ذلك، يلجأون إلى فسحة ما، ينتظرون فيها كي يُتاح لهم أن يجتازوا الطريق، وعلى هذا الوضع، وضع الترقب وتلافي السيارات، يلوذون إلى مواطئ بعينها.

مقاعد الفوات
قليلة هي المرات التي يتجمع فيها المارة تحت إشارات السير وفي مقابل الخطوط البيضاء التي عليهم أن يسلكوها عندما يجتازون الطرقات. ففي "ساسين"، يتجمعون تحت أشجار الساحة، أو بالقرب من الكُشك الموجود في زواية من زواياها. منه، يبتاعون حاجاتهم، ويتناولون أغراضهم بأيديهم، وتظهر وجوههم كأشخاص، ذلك على عكس ما هي حالهم لما يقفون ويسيرون على الطريق وفيه. ثم، أنهم يجدون في الأشجار أجساماً يضيفونها على أجسادهم التي أتعبتها حركة السيارات وازدحامها، عدا عن أصوات أبواقها التي لا تسكن.

إلا أن المارة المفترضين، أو المُشاة الذين ينتقلون من الظهور المصادف إلى العبور، لا يتوزعون على الكُشك والأشجار فحسب، بل قد يقفون بالقرب من أمكنة مخصصة لجلوسهم. والحال، أن في الساحة أكثر من عشرة مقاعد إسمنتية، متفرقة على زواياها، أمام الـ"ليبان بوست"، والعلم اللبناني الضخم، ومقهى "بريكفيست تو بريكفيست"... لكنها غالباً ما تظل خالية من جالسيها. فإما يقف المارة بقربها للحظات فقط، أو يحتل شرطي السير أرجاءها مع دراجته النارية. على هذا المنوال، المقاعد المعدة لجلوس المشاة ولترويحهم عن أنفسهم صارت مساحة للبوليس الذي يضبط حركتهم وحركة السيارات، وهذا ما يضاعف من تحولهم إلى مارة متأخرين عن وقت الساحة وسرعتها.

ثم إن جلوس المارة على تلك المقاعد يبدو كأنه جلوس خارج الساحة، وتعليق لوجودهم فيها، بحيث لا يستطيعون الإنتظار عليها، أكان موضوع تحيّنهم هو توقف السيارات، أو وصول باص النقل المشترك. هكذا، تلك المقاعد تبدو بلا وظيفة، فالجالس عليها قد يشعر بالفوات، فوات حركته، وفوات مكانه. وهو لن يعبّر بذلك عن صدفة متأخرة، كما هي حال المارة، فيسرع إلى إحرازها في حينها، بل سيعبّر عن الإمتثال للسيارات وتسليم نفسه للأمن الناظم لمرورها والمشارك في إنتاج صراعها مع الأجساد.

أجرة الإنقاذ
شيئاً فشيئاً، يزدحم السير، وتبدأ أجسام المركبات بالفوز على أجساد المارة. فلا تترك لها مجالاً لكي تعدل حركتها بطريقة ملائمة فتنتقل من المشي إلى العبور، كما لا تسمح لها بالوجود بذاتها، من دون أن تلجأ إلى شجرةٍ، تقيها بجسمها من الصخب، وإلى الشراء من الكُشك فتتألف كهياكل شخصية. هذا، وتتغلب السيارات على المارة من خلال ركون شرطة السير إلى أرجاء المقاعد، وتعطيل وظيفتها، وجعلها فُسحاً مخصصة للمراقبة. تالياً، تلك الأجساد لا تستقيم على حال، فهي إذا كان أصحابها مُشاة، تبدو كأنها تتسابق مع فعلهم، وغالباً ما تفوز عليه، فتتحرك على منوال وسط بين الترجل والهرع. وإذا كان أصحابها مارة، فتبدو كأنها هي متأخرة عن فعلهم، فتتحرك على سبيل الراغب في التوقف من أجل عرض نفسه أو بغاية الراحة. في النتيجة، لا تمشي الأجساد ولا تمر، وهذا ما يجعلها وجودها هزيلاً في صراعها مع السيارات.

لكن ثمة طرفاً ثالثاً، غير المركبات والمارة، في هذا الصراع، أي سيارات الأجرة وأصحابها، الذين يحضرون في الوسط بين الطرفين. إذ يظهرون في "ساسين" كأنهم لا يمتّون بصلة إلى الأجسام الآلية ولا إلى الأجساد العابرة، بل أنهم لما ينزلون من سياراتهم، التي أوقفوها إلى جانب الطريق، يبدون كأنهم يعرضون على المارة أن يتحالفوا معهم، وينقذوهم من خسارتهم في الصراع. ولهذا العرض وسائل عدة، أولها، الكلام المباشر مع الماشي، وثانيها، هو الزمور غير العشوائي، كالذي تطلقه السيارات، بل الموجه نحو الماشي إياه. بالإضافة إلى كون سائق التاكسي هو تعبير عن ضم الجسم الآلي إلى الجسد المارّ، بحيث أنه يجمع طرفيّ الصراع في مشهد واحد. وفي الوقت نفسه، يقدم للماشي ما يرغب فيه، أي جسم يلجأ إليه لتجنب الهزيمة.
بعد ذلك، من الممكن القول أن أجرة التاكسي في الساحة هي أجرة تدفعها الأجساد لإنقاذها من صراعها مع المركبات، هذا، ولا شك أن سائق التاكسي يقدم لتلك الأجساد ما تعتقد، وفي المشهد الـ"ساسيني"، أنه ناقص منها، خصوصاً أن وجودها بذاته هو وجود شبه خائر أمام الحركة وجلبتها. فيقدم لها السائق نفسه كطرف يحوز على سيارة، لكن الأخيرة بمثابة جسم حاضر لصالح الجسد، كما أن زموره إشارة إتصال وتوصيل وليس إبعاد أو إستعجال. ثم أن الكلام الذي ينطق به سائق التاكسي موجهاً إياه إلى السائر هو مجموعة من العبارات التي تشكل الأخير كشخص، له وجه ويد، ويحتاج إلى مَن ينقله من مكانه. بالتالي، يكفل التاكسي إخراج المار من أرجاء ارتطامه الممكن بالسيارات في حال أراد إجتياز الطريق عاجلاً أم آجلاً.

مقاهي الإحتياط
أجساد المارة قد لا تفترق عن الساحة وتذهب إلى دواخلها بالنزول منها نحو "أوتيل ديو" أو "حي السيدة" أو "السوديكو" أو "السيوفي" أو "التباريس"، بل قد تقرر الجلوس في المقاهي التي تتوزع على زوايا "ساسين". ومن تلك المقاهي الأربعة، أي "كوفي بين"، و"ستار باكس"، و"كولومبيانو"، و"تشايس"، ثمة ثلاث تتعامل مع قاصدها بطريقة واحدة، وهي "الخدمة الذاتية"، أي أنها تقدم القهوة على سبيل المثال، فيدفع ثمنها مباشرةً قبل أن يقعد في مكان يختاره داخلها أو خارجها. ففي هذه المقاهي، لا يتصل الجسد بنظام التبادل، بطلب حاجته ودفع ثمنها بيده، إلا للحظات، قبل أن يبارح هذا النظام، ويعود إلى وضعه كمارّ جالس على كرسي حديدي وخشبي، وحوله جمع غفير من أمثاله.

فخلال لحظات، يدخل الجسد نظام التبادل، تماماً مثلما هي حاله لما يدخل الكشك الموجود بالقرب من بنك BLC، حيث يبتاع صحيفة أو زجاجة عصير مثلاً، قبل أن يعود إلى الساحة واقفاً بإزاء السيارات. أما في المقاهي، فنظام التبادل الذي يتصل به يؤمن له مقعداً وطاولةً ينسحب إليها من صراعه مع المركبات، لكن، ذلك، لا يحوله بعد شربه قهوته إلى جسد مارّ بكل ما لفعله من حركة أو من فوز بها. فغالباً ما يظهر الجالسون في المقاهي، لا سيما في فسحاتها المحاذية للطرقات، كأنهم يؤلفون إحتياطي العبور، وها هم قد جلسوا على الكراسي وحول الطاولات تاركين الساحة لأجساد أخرى تتوقف وتجتاز وتمر. وهؤلاء الجالسون يشربون القهوة لا يدرك سائقو التاكسي كيف يتعاملون معهم، فلا هم مشاة، ومن سكونهم، يبدون خارج حلبة الصراع على الحركة.

فيهمّ السائقون إلى انتظارهم، وتحيّن نهوض واحد منهم، وعودته إلى حال التنقل من موضع إلى آخر، علّه، بذلك، يكون راكباً مقبلاً. وفي هذا الإطار، إطار علاقة سائق التاكسي بالجالس على كرسي المقهى، أي المارّ السابق، يظهر السائق كأنه خسر موقعه بين العابرين والسيارات، وكأنه ما عاد بمقدوره أن يستثمر في الصراع بين الإثنين، فما أن يرى جسداً مبارحاً لكرسيه حتى ينظر إليه ويحاول جذبه إلى سيارته. وهكذا، يتغير موقع سائق الأجرة من منقذ الأجساد التي تحث خطاها للمرور إلى مبعد لها عن منازلتها هياكل المركبات في الساحة. كما لو أنه يمنع تحقيق كابوس سائقي السيارات التي تتحرك من طريق إلى آخر: أن يهجم الجالسون في المقاهي على أجسامهم، ويعترضون حركتهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها