الجمعة 2016/02/05

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

حين كانت لهجة الأغاني العراقية ثقيلة على قلبي

الجمعة 2016/02/05
حين كانت لهجة الأغاني العراقية ثقيلة على قلبي
..وكانت اللحظة التي نقلتني من اغترابي عندما استمعتُ إلى "الله أكبر جلّ جلاله" لمحمد القبانجي
increase حجم الخط decrease
"يا إلهي أن لي أمنية ثالثة: أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزين" - مظفر النواب
لم تكن هناك خيارات تكنولوجية كثيرة وقت طفولتي، وكان البلد يقتصر على قناتين عراقيتين ببث ساعات محدودة وبضع موجات لراديو محلية وأخرى شهيرة؛ مثل إذاعة لندن ومونت كارلو. مع ضيق الذوق السائد في البيت ابتداءً من أبي العاشق لوردة الجزائرية وطلال مداح والأبوذيات وليس انتهاء بذوق أختي الكبرى في الاستماع إلى أم كلثوم وMireille Mathieu، التي عشقتها بسبب قصة شعرها وغرغرة حرف الراء في حنجرتها، وأحسستها أقرب عندما قرأت حواراً قديماً معها في السبعينات تقول فيه إنها من عائلة كبيرة متكونة من 14 فرداً، وبهذا كسرت في مخيلتي صورة العائلة الأوروبية المصغرة لأني مثلها قادمة من عائلة كثيرة الأفراد. كان لأختي الكبرى التأثير الأكبر فيّ، فهي من جعلني أتعرف على فرقةABBA في ما بعد وجعلتني اكتشف ميادة الحناوي لأول مرة بأغنية "كان يا ما كان". 
لم يكن في بيئتي محفزات مبكرة للاستماع إلى اللحن العراقي سوى ما كنتُ أصادفهُ في البرامج المحلية اليومية ومنها فقرة المنوعات، حيث كان التلفزيون يستهلك الأغاني بتكرارها لتتحول هذه الفقرة بالنسبة لي إلى وصلة تعذيب حقيقي.

بقيتُ مخلصة للاستماع إلى راديو مونت كارلو وما يصلني منه من أغنيات لبنانية وعربية واقتصر سماعي الأغاني العراقية على بعض الأسماء المعروفة مثل ناظم الغزالي أو سعدون جابر في أفضل الأحوال. كنتُ اندهش من اعجاب الناس بأغاني سعدون جابر تحديداً، إذ لم أستطع يوماً أن أتقبلهُ كمطرب ولم تحركني أغانيه. لكن يبدو أنه لم يكن الوحيد في ذلك الوقت، إذ اكتشفتُ أن بيني وبين الطرب العراقي قطيعة غير مبررة سوى اللهجة التي كانت وما زالت ثقيلة على قلبي في الأغاني والدراما.

أحب اللهجة البغدادية حين أتحدث بها واسمعها من الناس ولم اتقبلها يوماً في دراما أو سينما أو أغنية. هكذا كان يرسم خيالي الطفولي لي أن اللهجة الجميلة الوحيدة في الأغاني هي اللهجة المصرية واللبنانية. وهذا ما كانت تعززه برامج راديو العراق بتفضيل فقرات فيروز وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب على الأغاني العراقية. مرت السنوات من دون أن استمع إلى أغنية عراقية بأذن صاغية، كل ما كان يصادفني من لحن عراقي كنتُ أمرّ عليهِ "حرفياً" أو اتلقاه بحسب التعبير الشهير "مطرب الحي لا يطرب"، إلى أن كانت تلك اللحظة التي نقلتني من مستوى الاغتراب في هذا الفضاء عندما استمعتُ ولأول مرة إلى أغنية أو مقام للفنان العراقي الراحل محمد القبانجي بعنوان "الله أكبر جلّ  جلاله".


رجل كبير في العمر يقف بكامل قيافتهِ الكلاسيكية على المسرح وتصطف خلفهُ أعضاء فرقة عزف المقام العراقي، معظم أعمارهم فوق الأربعين وبعضهم يرتدي النظارة السوداء فنعرف أنه كفيف.

ترى ما الذي جذبني إلى هذه الأغنية في وقت كنتُ مولعة بهِ بالروك والبوب وأتابع بجنون مايكل جاكسون ومادونا وجورج مايكل وكل الفرق التي اشتهرت في منتصف الثمانينات والتسعينات؟ حيرني هذه السؤال كثيراً وهذا التناقض في تذوقي للحن العراقي، إذ لم اقتن يوماً شريط غناء عراقي عدا المقام. بعد سماعي هذه الأغنية صرتُ اسأل أبي عن هذا الفن وكان يزودني بمعلومات عن فناني المقام المشاهير، منهم من كان قد رحل عنا ومنهم من كان ما زال بيننا ولم يعودوا كذلك الآن. لم يكتف أبي باخباري عن نجوم هذا الفن ولكنهُ زودني بكتاب أيضاً عن تراثه.. كان الكتاب ضمن قراءاتي المبكرة وما زلتُ أذكر شكل الغلاف رغم أنني نسيت عنوانه، اعتقد أنه كان لمؤلفه الحاج هاشم الرجب، خبير المقام العراقي وعازف ويعتبر أفضل من دوّن تاريخ هذا الفن. كل ما علق في ذهني من هذا الكتاب هي حكايا بغداد العتيقة عن الموسيقى وقراء المقام و"اسطواته".

طوّرتُ استماعي للمقام بالبحث عن أسماء أخرى غير القبانجي فتعثرتُ بالفنان يوسف عمر. كان أشهر قارئ مقام يظهر على التلفزيون مراراً وتكراراً دون أن أمل من متابعتهِ. كان يُطرِب أبي ويدندن طوال مدة الأغنية معه، رغم أن صوت أبي المدرّب جيداً على تجويد القرآن لم يكن ينفع في تأديه المقامات بقدر ما كان ينفع في اداء الأبوذيات. كان أبي يجيد عزف الربابة بحكم تنقله كمدرس في القرى والأرياف وضواحي البادية. كان يرفض نقله إلى المدينة لأسباب كثيرة منها قسوة الإلتزام في المدن وخفتها في الضواحي. تعلّم معظم اللهجات بحكم احتكاكهِ بهذه المجتمعات الصغيرة وتعلم من كل منطقة أغانيها التراثية، فكان يعزف لنا ويغني أثناء تواجدهِ نهاية الاسبوع. خفّ تأثير أبي عليّ في الموسيقى بعدما ترك هوايته في الغناء والعزف وانشغل بسوق المال وشغفه الجديد في الأنتيكات.


لم أكن أعلم وقتها أن متابعة المقام العراقي هي مثل متابعة جسد موحد تكاد لا تستطيع أن تفهم عضواً فيه ما لم تدرس الآخر. هكذا نقلني يوسف عمر بهزة رأسه الشهيرة إلى حضور المطرب وعازف آلة الجوزة شعوبي إبراهيم، ثم إلى جيل فتي أكثر متمثلاً بحسين الأعظمي ومطربة المقام العراقي فريدة، التي طلت علينا لأول مرة على المسرح بأغنية "على شواطي دجلة" وأشعلت المسرح وقتها بقوة صوتها وصفاء أدائها.. 

هكذا، وبكل يُسر، كنتُ اتنقل من الاستماع إلى إذاعة إف إم الغربية ومونت كارلو، من أغاني الروك والبوب والموسيقى الفرنسية إلى سماع السنطور في المقام العراقي. الطريف في الأمر أنني لم أمر بمرحلة وسطية بين الغربي والشرقي وما يطلق عليه "شجن اللحن العراقي".  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها