الإثنين 2016/02/22

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

دهشة التحولات في كائنات شارل خوري

الإثنين 2016/02/22
increase حجم الخط decrease
تحتضن صالة "جنين ربيز"(*)، معرضاً للفنان اللبناني شارل خوري، الذي ما زال يحاول أن يعيد تشكيل عالمه الفني من خلال رصد تحولات واحتمالات جديدة للعناصر التي تتكون منها لوحته، غير آبه بما يسببه رصد وصيّد هذه الإحتمالات التشكيلية من اختلاق لكائنات مخيفة أو متداخلة، تحاول أن تجد لها مكاناً في فضاء لوحته. ما من شكل رسمه أو يرسمه الفنان في لوحته إلا ويشي بحياة غريبة تسري حتى زوايا اللوحة. ربما لأجل ذلك يشعر الناظر إلى "مخلوقات" أعماله أنها تتحرك وهي ثابتة أمامه. 

لم يبارح الفنان اختبار أقصى احتمالات الأشكال وتداخلها مع بعضها البعض. ففي حين كانت "المخلوقات" التي اشتهر بها الفنان تظهر في لوحاته السابقة بأشكال يغلب عليها الوضوح، ويظهرانشغالها بأفكار ومشاعر أو أعمال تقوم بها، ففي هذا المعرض يحدث على قماشة اللوحة تشابك كبير في ما بينها لتستحيل جميعها إلى كتلة واحدة قابلة للتفكك في أية لحظة من اللحظات.

أما اذا كانت أعماله السابقة يسري في فضائها فراغ بسيط، يلطّف من حدة ألوانها، ففي هذه اللوحات لا مكان إلا للكائنات التي تريد الإستحواذ على الفضاء كله، حتى وهي "مجتمعة" تشكيلياً في حزم لونية تحاكي الحياة والطبيعة في وسط اللوحة.

يسكن نوعان من الكائنات لوحات الفنان شارل خوري. النوع الضخم نسبياً، هذا الذي يرفض أن يشارك الفضاء مع غيره من الكائنات، وهو غالباً ما يحتل الجزء المحوري من اللوحة، وهناك الكائنات التي تحوم أو تتكتل في هيئات مختلفة من حول الكائنات الضخمة. هذه الأخيرة تستمد طاقتها التشكيلية من الكائنات الأولى. أما براعة الفنان في هذا المكان بالتحديد، هو قدرته على خلق توازن عام ما بين الأشكال الصغيرة والكبيرة وتلك المتحولة ما بينهما. فمن دون توازن القوى هذا ما بين الكائنات "يفرط" التشكيل وتتبخر الألوان.

كما تتميز لوحات شارل خوري الجديدة بحضوراللون الأسود وحدّة الفصل ما بين الأشكال وإن تداخلت في ما بينها. ويبقى الحيز "الديبلوماسي" ما بين النوعين من الكائنات المذكورة آنفاً هو هذه الفسحة، أو الطبقة اللونية البيضاء والشفافة التي يمكن اعتبارها رئة واسعة للكائنات المجتمعة ولظلالها المتوالدة من ضوء غامض غير معروف مصدره: هل هو من خارج اللوحة أو من داخلها.

يشتغل الفنان على لوحته طبقة تلو الطبقة، يراكم الألوان الشفافة حتى يكثفها في بعض الزوايا ويجعلها في مواضع أخرى شديدة العتمة، لتبدو وكأنها مغاور ما قبل التاريخ خرجت منها كائناته الشهيرة والدائمة التحول.

في المعرض ثلاث مجموعات مختلفة من اللوحات، وإن جمع بينها اسلوب الفنان الذي اشتغل طويلاً على تطويره. المجموعة الأولى تذكر بكائنات ما قبل التاريخ (وهو موضوع محبب لدى الفنان)، والمجموعة الثانية تتشكل فيها بحيرات اصطناعية  ذات زوايا واضحة تغلي فيها ألوان متفجرة، تكاد تُغرق كل ما يسبح في داخلها أو بمحاذاتها من كائنات أو أشكال غامضة هي في قيد التكوين أو على وشك الإضمحلال. ربما أقوى أعمال الفنان تلك التي يطغى عليها اللون الأسود وتسودها المجموعة الثالثة وهي "الأشكال الحيّة"، إذا صحّ التعبير أو الكائنات المهولة التي تبدو في مواضع كثيرة من لوحاته، وكأنها تقيم حروباً استعراضية مع المخلوقات الأضعف التي تعيش في فضائها. لكن هذا الإحساس بالصراع القائم ما بين الكائنات لا يلبث أن يتلاشى، فالأسلحة البدائية التي تبدو وكأنها أدوات حروب غابرة في قبضة المخلوقات الضخمة، تلين وترق لتتحول إلى أشكال جديدة. أشكال أو كائنات جديدة تعود إلى اكتشاف محيطها فتتفاعل معه. من الكائنات الهجينة التي ولدت من هذا الصراع "المُحبب"، إذا صح التعبير، يولد عصفور طريف أو طائر سمين، أوغصن شجرة أخضر، و يولد أيضاً شمس وقمر.

أشكال شارل خوري لا نهائية. تتحول، تتناقض، تتفاعل، تتلاشى لتعود من جديد في أشكال أخرى. تعود في أسئلة أخرى يطرحها الفنان حول الشكل واللون والخط، وبالتالي أسئلة حول الحياة والفرح والألم والوحدة ومعنى التواجد في جماعات. يبقى أن نقول أن عنصر الدهشة هو المحرك الأول لعمله الفني والذي رافق ريشته منذ بداية مسيرته الفنية. وقد استطاع الفنان أن ينقل -ولا يزال- هذه الدهشة إلى عين الناظر إلى لوحاته.


(*) الروشة بيروت، يستمر المعرض حتى 18 آذار/مارس 2016 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها