الخميس 2016/02/11

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

"فهرس" لسنان أنطون... أصوات الأشياء والبشر

الخميس 2016/02/11
"فهرس" لسنان أنطون... أصوات الأشياء والبشر
كأن أنطون توصل أخيراً إلى نقطة تلاقٍ مع نفسهِ بعد رحلات عديدة عبر السرد والشِعر
increase حجم الخط decrease
لا يبتعد سنان أنطون في روايتهِ الجديدة الصادرة عن دار الجمل 2016 عما بدأه في روايتهِ الأولى "إعجام" ومن ثم "وحدها شجرة الرمان" و"يا مريم" التي وصلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية في 2012. 

فهو على خطى مسيرتهِ التي بدأها في رصد الخراب والجماليات في آن، في ملامح بغداد خاصة، والعراق بشكل عام. في "فهرس" ربما سنجد سنان/نمير بوضوح أكثر ويكاد صوتهُ يكون الأقرب من بين الأصوات الكثيرة التي سنسمعها في الرواية. وكأن أنطون توصل أخيراً إلى نقطة تلاقٍ مع نفسهِ بعد رحلات عديدة عبر السرد والشِعر.

تبدأ الرواية بفصل "بدايات" وهي مقتطفات من مخطوطة مكتوبة باليد تصل "نمير"، استاذ الجامعة العراقي المقيم في أميركا منذ التسعينات، من بائع كتب في المتنبي أثناء تواجدهِ في بغداد مع وفد أميركي لتصوير فيلم عن الإحتلال. تبدأ رحلة الكتاب عبر سرد مقتطفات من المخطوطة المكتوبة باسلوب المونولوج النابع من صوت الأشياء والبشر على حد سواء. "فهرس" هو اسم المخطوطة ربما، أو كما أراد لها كاتبها، لكنها في الحقيقة هي تدوين لمراحل تلاشي ملامح بغداد عبر رصدها، ملمحاً بعد آخر، وكيف التهمت النار بعضها وابتلعت الحروب بعضها الآخر، كما ضاعت أغلبها مع الفقد والغياب القسري.

يقسّم أنطون مخطوطة "ودود" إلى منطق الأشياء والبشر، مثل: منطق الخليفة، منطق الزوراء، منطق "كاشان" أو منطق الشجرة! لكل شيء هنا منطق لوحده، مهما تشابهت نهايات تلاشيها في ملامح بغداد، فهي العلامات الفارقة لوجهها في خريطة العالم ودليل التائهين إلى بلاد العجائب. إن عودة "نمير" إلى بغداد بعد هذه السنوات ورؤيتها على ما آلت إليه الأمور إبان الاحتلال الأميركي، فتحَت أمامهُ أفق الذاكرة من جديد ليعود بنا إلى زمن لطالما التصق بمخيلة جيل كامل عاش معظم الحروب الأخيرة، ابتداء بالحرب العراقية الإيرانية. ورغم القسوة التي كانت تحملها تلك الأيام من العيش تحت حكم سلطوي ودولة أمنية قوية، لكنه في بعض محطاتهِ يظن أنها كانت أياماً أجمل من الحاضر. لأن حتى هذه القسوة كانت ملمحاً من ملامح بغداد التي تلاشت وحلّت الوحشية والوحشة بدلاً منها.

بسبب بُعد "نمير" عن البلد لسنوات، كان بحاجة إلى عين داخلية تكون دليلهُ على مراحل الخراب الذي حلّ بالبلد، فكانت المخطوطة وكان "ودود". لم يأتِ الأخير من فراغ، بل من زحمة العدم المَرئي، وربما من تحت أنقاض الأحلام المُنهارة على رأس شعب بأكمله. "ودود" بائع الكتب البسيط في شارع المتنبي، هو بصيرة  كل عراقي فتحَ عينيهِ على أول صاروخ وقع على أرض العراق، مطلع الثمانينات، وهو صوت كل حجر انهار بذلك الصاروخ وانهارت معهُ أولى الابتسامات في وجه بغداد. "ودود" هو يد كل عراقي حاول أن ينقذ شجرة سدرة ونخلة من حريق قصف الصواريخ، وجدار كل ملجأ جاهد في الحفاظ على أرواح العائلات والأطفال وهم يحتمون من ضربات دولة واحدة، أو ثلاثين دولة مجتمعة، ينجحُ أحياناً ويخفق أحايين كثيرة!

"ودود" هو الموقف السياسي الواضح الذي لا يتوانى أنطون أن يصرح بهِ مراراً وتكراراً عبر أعمالهِ أزاء الاحتلال الأميركي وتشكيلة الحكومات المتوالية على البلد بعد الاجتياح. كما لا يغفل قط عن أصل المشكلة وهو حقبة حكم صدام. نصادف "نمير" يعلن عن موقفهِ السياسي أمام طبيبتهِ النفسية أو مع صاحبتهِ الأميركية، ولا يندم على خسارة لحظة لقاء مع صديق قديم بعد سنوات من الفراق بسبب موقف سياسي يتقاطع معهُ، كون هذا الصديق أصبح من المنتفعين الجدد من الوضع. وبين جملة المواقف السياسية لا يخفي "نمير" غضبه تجاه المجتمع الدولي والمنظومة الاقتصادية العالمية التي تستهدف الانسان في انسانيته أولاً وجماليات الروح البشرية، كموقفهِ الذي يصرح بهِ تجاه سلسلة مقاهي ستاربكس وكيف كان لها الأثر الكبير في تلاشي فكرة المقاهي الحميمية الصغيرة. 

اللغة لعبة أنطون الأساسية في معظم أعمالهِ، ويبدو أن تخصصه الأكاديمي ساهم في إبداعه فيها. في تسلسل القراءة تكتشف أنهُ يوقظ اللغة العربية من جمودها في مواضِع عديدة لينفذ فيها روح الحداثة عبر فصول أو "منطق" المخطوطة. علاوة على أنه يقتبس في هذه الرواية من ڤالتر بنيامين والتوحيدي وأميري بركة، كما يذكر في نهاية الكتاب، فهو يخلق اقتباساته الشخصية التي تحير القارئ إن كانت هذه المخطوطة حقيقية أم من نسج الخيال. وهذه البراعة في التنقل بين واقع شخصية الراوي، نمير/سنان وبين الشخصية المتخيلة "ودود" تضعنا أمام تجربة فريدة في السرد العربي من حيث استخدام اللغة كوسيلة للوصول لهذه النقطة: نقطة "التماثل" بين الواقع والخيال في ذهن المتلقي. حتى وهو يحاول أن يكتب نصاً كلاسيكياً، وأقصد ضمن سياق المخطوطة، كانت لغة أنطون لامعة وسلسة ومتجددة برغم محاولاتهِ لجعلها لغة من الزمن الماضي، ولعل هذه اللعبة لا يجيدها سوى من يقصدها ويتعمدها حقاً.. لقد نجح إلى حد بعيد في جعل القارئ يتفاعل مع الأدب الكلاسيكي بنفَس حداثي.

يعتمد أنطون على اللهجة المحكية في كتابة معظم حواراته "العراقية" دون الأجنبية منها، وهذه التقنية كثرت في السنوات الأخيرة في مؤلفات العراقيين لسبب مجهول، إذ أنه لم يكن شائعاً كثيراً في أدب الأجيال السابقة. ولا أعرف حقيقة ما مدى تأثير كثرة استخدام اللهجة المحكية في عمل أدبي بالنسبة للقارئ العربي الذي يجهل الكثير عنها، خاصة مع تنوع اللهجات العراقية وصعوبتها لغير العراقيين. من المؤكد أن الأعمال الأدبية في دول العالم تستخدم اللغة العامية في حواراتها وبعض الكتب تُكتب أساساً بهذه اللهجات، لكن تبقى للغة العربية خصوصية شديدة من هذه الناحية بحيث تبقى مسألة "الإسهاب" في استخدام اللهجة محل جدال ووجهات نظر متباينة.

التجربة الشخصية هي الأم الشرعية لعمل أدبي، معظم الأعمال الأدبية الخالدة في الواقع كانت مبنية على تجارب حقيقية مر بها أصحابها أو عاصرها، حتى الخيالية منها كما نظن. وتجربة "نمير" تبدو شخصية جداً، رغم تنويه الكاتب أن الشخصيات والأحداث هي من نسج الخيال. لكن القارئ ولا بدّ أن يلمس هذا الرابط الإنساني العجيب بين المؤلف وشخصياتهِ وكأنه صوت ألمهم وغيابهم عن وجه بغداد والعراق، حتى نصل/ أو يصل الراوي إلى نقطة يتساءل فيها إن كان هو "ودود" أم "ودود" هو: "أقلب الدفتر وأكتشفُ أنّ كلماتي صارت تشبه كلمات ودود في كثير من المواضع. هل حدث هذا لأني نسختُ مناطقهُ ورسائلهُ بخط يدي لأنني خفت أن تضيع أو تتمزق؟ ولأنني قرأت ما كتبهُ عشرات المرات؟ أم أن هذه كانت حجة كي أتشرب أسلوبه وأتقمص شخصيته!" ص (265)

تبدو لي رواية "فهرس" أكثر انضباطاً من حيث التقنية الجديدة التي استخدمها في تداخل المشاهد والصور والتنقل بين الراوي وصوت الرواة في المخطوطة. لم اتعرض كقارئ أثناء القراءة لانقطاع تسلسلي بين أحداث الرواية وأزمانها، بل وجدتها متصلة ببعضها البعض، وأن هذه التقطّعات جاءت ضرورية للمشهد السينمائي الذي كان يُعرض في رأسي أثناء القراءة.. كثرة أصوات الرواة أمر مربك، وكأن هذا الكتاب "خُلق" من أجل استيعاب الأجناس الأدبية كلها. فأنت لا تقرأ رواية وحكاية متسلسلة فحسب، بل تقرأ قصصاً قصيرة مفعمة بالمونولوج المَعرفي لموجودات الحياة، وستقرأ شعراً وربما تصادف مسرحية عابرة عن عاشقة موسيقى وباليه. وقبل أن نسدل الستارة على الأجناس مجتمعة، سنقرأ بالتأكيد رواية جميلة تأخذنا معها إلى نقطة لا نريد فيها التوقف عن القراءة عند نهايات متعددة وغامضة لبدايات واضحة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها