الخميس 2016/02/11

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

رحيل مطهر الأرياني... آخر حرّاس الهوية اليمنية

رحيل مطهر الأرياني... آخر حرّاس الهوية اليمنية
اشتهر ردّه، شِعراً، على أحمد محمد الشامي، معدّداً مناقب اليمنيين ما قبل الإسلام وفي صدر الإسلام
increase حجم الخط decrease
يشعر اليمنيون بلوعة فقدان الشاعر والمؤرخ، مطهر بن علي الارياني، الذي شكّل وجدانهم على مدى اجيال... انه حزن الرحيل الذي يوحد اليمنيين اليوم رغم التمزقات التي صنعتها الحرب. كان مطهر الإرياني أنبل مَن استوعب الفعل الحضاري لليمنيين، كما قضى عمره يحث على انبثاق الهوية اليمنية من بين الركام.

الفقيه اللغوي والعلاّمة التاريخاني المتفرد، قارئ خط المسند السبئي القديم؛ بل لعله أول يمني في العصر الحديث يقف أمام نقوش المسند ناسخًا وقارئًا لها، وفوق ذلك كان خبيراً في الفلك وثقافة مواسم الزراعة لدى اليمنيين القدماء، بل كان اكثر من عرف أديان اليمن القديمة وفنونها حتى صار شعره الشعبي صورة مكثفة للعادات وللتقاليد الحربية والسلمية المجذرة في الذاكرة الجمعية...

حصّل مطهر الإرياني تعليمه العالي في الخمسينيات والستينيات في القاهرة، ثم واصل تحصيله العلمي مطلع السبعينيات في ألمانيا، ولقد كان الأديب والمبدع الخصوصي، فضلاً عن أنه المنتشي بروح القرى وما يمثله الريف -على وجه التحديد- من قيمة اجتماعية متميزة في الحياة اليمنية.

 رحل مطهر الإرياني عن عمر ناهز 83 عاماً، وبعد رحلة علاجية في إحدى مستشفيات القاهرة، كما أعلن نجله الأكبر أوس. والحال ان مطهر الإرياني امتلك خصوصية عبقرية في مجاله، وحتى آخر أيامه ظل يؤكد على أن التراث اليمني تراث غني ومغبون. 
وتقول تجربة الإرياني الشعرية الغنائية إضافة الى دراساته وبحوثه الغزيرة في الأدب والتاريخ اليمني القديم انه كان مع إعادة استيعاب الفعل الحضاري اليمني الذي افتقد في اليمن منذ عصور. يصفه وزير الثقافة الأسبق، خالد الرويشان، بأنه "خلاصة من خلاصات اليمن النادرة.. عاشقٌ لتاريخ اليمن ومعجونٌ به". كما يصفه الروائي علي المقري بـ"ضمير الثقافة اليمنية الحديثة وصوتها الجمالي النادر"، مضيفاً إنه "يغادرنا بعد رحلة صعبة وجميلة في البحث عن تراث اليمن الجميل ودليلها إلى الحياة. يغادرنا وفيه غصّة من حرب ووحشة من وطن، هذا الوطن الذي كان بالنسبة إليه أغنية تتردد كل صباح ومساء، أغنية أعاد مطهر الإرياني صياغتها لتشدو مع كل الأجيال".

ومطهر الإرياني متعدد المواهب هو من أسرة اشتهرت في العمل بسلك القضاء، وتمتد جذورها وعروقها في التربة اليمنية سواء في المنحى الفقهي الزيدي – الشافعي، أو علم كلامها: الأشعري المعتزلي. وارتبطت هذه الأسرة بنضالات اليمنيين ضد الحكم الإمامي الملكي، وانحازت مبكراً للوعي الدستوري اليمني، وحركة الأحرار اليمنية الحديثة التي تبلورت في الربع الأول من القرن الماضي.

كما ارتبط وعي مطهر الإرياني بثورة سبتمبر 1962 بشدة.. وفي الستينيات اثناء مشاركته في الثورة، كان مديراً لتحرير صحيفة "الثورة" الرسمية اليومية، كما اتسمت كتاباته حينها بتحريض الوجدان الشعبي بهدف توسيع قاعدة جماهير الملتحقين بالثورة والدفاع عنها.

وأثناء الحرب الطاحنة بين الجمهوريين والملكيين آنذاك، نظم الأرياني قصيدة طويلة من مئات الأبيات بالفصحى (ونالت شهرة واسعة) ضد القوى الإمامية، مطلعها: "أيا وطني جعلت هواك دينا وعشت على شعائره أمينا"، وهي ملحمة شعرية بعنوان "قصيدة المجد والألم" لكنها تفاخر بالقحطانية، إذ كانت رداً على قصيدة الشاعر والأديب والسياسي احمد محمد الشامي، الذي كان في ذلك الوقت (1967) وزيراً لخارجية القوى الملكية وناطقاً باسمها اثناء الحرب بين الفريقين المدعومين من السعودية ومصر.

فبعدما أقدم الشامي على كتابة ما أسماها "دامغة الدوامغ"، على طريقة النقائض المعروفة في الشعر العربي الكلاسيكي القديم والتي تتمحور حول التفاخر بالانساب القحطانية والعدنانية - بينما زعم فيها إن قيام ثورة سبتمبر جحود لجميل الائمة الهاشميين، وإن الله بعث الائمة لإنقاذ اليمن. فردّ الارياني عليه، متباهياً بيمنيّته، ومعدداً مناقب اليمنيين ما قبل الاسلام وفي صدر الاسلام، اضافة الى ما عانوه من القهر الإمامي جراء تأسيس يحيى بن الحسين الرسي (من نسل الحسن بن علي) دولة المذهب الزيدي في مدينة صعدة بشمال اليمن والتي سكنها قادماً من المدينة المنورة، ثم توالى على استنهاض تلك الدولة أحفاده الذين ينظرون للسلطة على انها احتكار للبطنين لا للشعب، حتى ظلوا في صراع طويل مع اليمنيين الرافضين للأمر وامتد قروناً.

مطهر الإرياني تلقى تعليمه الأولي في مسقط رأسه، قرية حصن إريان، بوسط اليمن، على يد عدد من علماء أسرته، ثم غادر مبكراً الى مدينة عدن منتصف القرن الماضي، ومنها الى القاهرة ليلتحق بالعلم والتعليم الحديث المحرومة منه المملكة اليمنية المتوكلية، حينها، قبل انفجار ثورة الجمهورية.. وهناك، تلقى دروساً أساسية في اللغة العبرية، لصلتها القريبة من اللغة اليمنية القديمة، عن الدكتور حسين فيض الله الهمداني، الذي كان مدرّساً في كلية دار العلوم في القاهرة، وغيره. ثم تلقى دعوة لدورة دراسية إلى ألمانيا الغربية، من المستشرق الألماني فالتر موللر، والذي كان مطلعاً على أسرار قراءة خط المسند واللغات اليمنية والسامية الجنوبية القديمة.

وتدرك النخبة اليمنية جيداً ان الارياني كان وراء إعادة الحياة إلى عديد كبير من النقوش المسندية المهملة، وفي كتابه الضليع "نقوش مسندية وتعليقات" ما يجعلنا نزهو بتجربته الثرية كموسوعي مثابر لا يتكرّر في تألقه. وكذلك يعدّ كتاب "المعجم اللغوي اليمني" من ذخائر مطهر الإرياني، وفيه يوثّق للآلاف من المفردات اللغوية في اللهجات اليمنية مما لا نجده في المعاجم العربية.

هذا المعجم الذي جاء في مجلدين احتوى على أكثر من ثلاثة آلاف مفردة يمنية خاصة، وعنها يوضح الأرياني في مقدمته "كان يجب توافرها في المعاجم العربية، لكنها لم تدخل تلك المعاجم لأن مقاييس اللغويين العرب كانت مرتبطة بالكلمة الأكثر بداوة، بينما كانت مفردات أهل اليمن مفردات حضرية، وهذا أخلّ بالمعاجم العربية وحرمها من تراث لغوي كبير، حيث لم تستفد من لغة الحضر، واقتصرت على لغة البداوة، على الرغم من أن لغة أهل اليمن كتبت على الصخور قبل أن تكتب لغة الاخرين بألفي عام".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها