الأربعاء 2016/02/10

آخر تحديث: 14:09 (بيروت)

فيروس السامبا: من "انتفاضة اللقاح" إلى كرنفال "زيكا"

الأربعاء 2016/02/10
increase حجم الخط decrease
على الرغم من تفشي فيروس "زيكا"، والتحذيرات الرسمية من مخاطره، إلا أن عشاق موسيقى ورقص السامبا في البرازيل أصروا هذا العام على الإحتفاء بكرنفالهم في الشوارع وداخل الساحات وعلى الشواطئ. إذ خرج إليها حوالي مئة مليون منهم، من دون الإهتمام بما أعلنته "منظمة الصحة العالمية" عن انتشار العدوى "بصورة شديدة ومهلكة". ذلك، أن "زيكا" الذي ينتقل عبر البعوض يؤدي إلى تسخين أجساد المصابين به وإطفاح جلودهم، أو إلى فلطحة رؤوس الأجنة عند تعرض الحوامل له.

لكن، كل هذه العوارض لم تستحل عقبة أمام البرازيليين الذي انطلقوا في مهرجانهم منذ أيام، وسيواصلونه حتى نهاية الأسبوع الحالي. كما لو أن الجرثومة المستطيرة، بالإضافة إلى الإعلام الداعي إلى الإحتراز منها، لا قوة لهما ولا حول لمنع الناس من هز أجسادهم وتنقيلها على إيقاع البهجة والجوى. عدا عن إفلاتها على سجاياها وعروضها، العشوائية منها، كما في ممارسة التقبيل العفوي، أو المتعمدة، مثلما هي حال التنافس بين مدارس الرقص. ففيروس السامبا فتاك أكثر من فيروس "زيكا".

على أن المشهد الإحتفالي الذي يدور في ريو دي جانيرو، وغيرها من المدن البرازيلية، على وقع "زيكا" وتحير العلماء في أمر علاجه، يحيل إلى ما كتبه الفيلسوف رودريغو غيرون في أحد نصوصه القيِّمة عن السامبا. فالأخيرة لم تظهر سوى في سياق بعينه، هو سياق "إنتفاضة اللقاح"، التي حدثت في بداية القرن العشرين. 

فحين قرر الرئيس البرازيلي آنذاك رودريغز ألفيز تحديث ريو دي جانيرو وتصميمها بما يناسب موقعها كعاصمة، كلف رئيس بلديتها بإعداد مشروعها الإعماري، كما طلب من مدير الصحة العامة التخطيط لمشروعها الصحي. فما كان من الإثنين سوى إطلاق برنامج عُرف بـ"bota abaixo"، والذي على أساسه جرى تدمير الكثير من المباني والمساكن القديمة في ريو دي جانيرو، وتفريغ قاطنيها، وهم، في غالبيتهم، من الفقراء وأصحاب البشرة الداكنة. ذلك، قبل إلزامهم بلقاح الجدري، والتيفوس، والبرص، والسل.

فتلقيح سكان المدينة المخربة كان بمثابة تمهيد لإبعادهم منها إلى أطرافها، حيث سيبنون لاحقاً أول الـ"فافيلات"، أي الأحياء القصديرية. بالتالي، رفض الـ"ريو دي جانيرونيون" أي لقاح تفرضه الدولة وبوليسها عليهم، وبفعلهم هذا ساووا بين الطعم المكافح لأمراضهم ونفيهم من أمكنتهم، كما لو أن الأول هو إشارة إلى الثاني. وعليه، اختاروا الأوبئة، ومنها، أشعلوا "إنتفاضة اللقاح"، التي استمرت حوالي سبعة أيام في تشرين الثاني من العام 1904. فالسلطة ضربت حصاراً حول المدينة، وراحت شرطتها تلقح وتدمر وتُقصي، وبممارساتها هذه، أخمدت التمرد عليها، وجعلت العاصمة "متحضرة" و"مدينية" أكثر!

تجمع المطرودون من المدينة الجديدة في جوانبها البعيدة عن مركزها، وهناك، ولدت السامبا التي كانت، وبحسب غيرون، شكلاً من أشكال مقاومة الدولة عبر الجسد، مثلما كانت كرنفالاتها شكلاً من أشكال إستمرار "إنتفاضة اللقاح". فعروض السامبا الأولى كانت تنطلق من أحياء المقصيين، وهي ما يسميها غيرون "المركز الإفريقي لريو دي جانيرو"، نحو المناطق الغنية، التي شيد فيها الكثير من الأبنية والمتاجر حديثة. وغالباً ما كان البوليس يصطدم بها، ويعنف راقصاتها وراقصيها، الذين، في بعض الأحيان، كانوا يحملوا السكاكين تحت أثوابهم ليدافعون عن أنفسهم.

طبعاً، بعد فترة، قررت الدولة استدخال السامبا إلى نظامها، أكان عبر الإستثمار الإقتصادي فيها، أو من خلال كبت محتواها الإحتجاجي بإعتبارها "فناً وطنياً" وفولكورياً، كأنها أسطورة توحد "الشعب البرازيلي" وتمحو إختلافاته. هذا، ويشير غيرون إلى أن "مدارس السامبا"  شاركت أيضاً في تحويل ذلك الفن إلى "رمز ثقافي"، أو إلى عنصر من عناصر "بطاقة البرازيل البريدية"، أي صورة البلاد السياحية، بعد أن كان يخيف السلطات التي لا تستطيع تعقب أجساده المهتزة والنازعة إلى الحياة بما هي لهو ومرح.

اليوم، وفي ظل الكلام التحذيري، الحكومي والعالمي، عن "زيكا"، يبدو البرازيليون كأنهم يعيدون للسامبا ما سُلب منها. فخروجهم الى الشوارع للإحتفال بالرقص والغناء يضع أجسادهم في رجاء موتها اذا حصل واصيبت بالفيروس، كما يضع الفيروس نفسه في مقابل مقاومته. وفي الحالتين، ثمة علاقة بين "السامبايين" والجرثومة، وهي قريبة من علاقة سكان ريو دي جانيرو المهدمة بأمراضهم في وقت انتفاضتهم على الدولة ولقاحها. فكما اختار هؤلاء في العام 1904 الأوبئة وانتفضوا، كذلك اختار البرازيليون في العام 2016 "زيكا" وقرروا الإبقاء على كرنفالهم.

من جهة، هناك رفض للطعم، ومن جهة ثانية، هناك رفض للتحذير، وبالتالي، إبراز الأجساد بلا وجل وبدون فتور. كأن المحتفلين يأخذون من الفيروس المنتشر في بلادهم عارضاً من عوارضه ويستعملونه على مناويلهم: تسخين الأجساد ورفع درجة حرارتها عبر ترقيصها،  واطفاح جلدها بالأزياء المصنوعة من الريش والأنسجة المبرقشة. وهكذا، تتخلص الأجساد من قواعدها الصحية وغيرها، وهكذا، تصير السامبا ميكروبا معديا وباعثاً للحياة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها